بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

قوله تعالى : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } وذلك أن الله تعالى لما ذكر حال اليهود ونقضهم الميثاق ، فقال على أثر ذلك إن النصارى لم يكونوا أحسن معاملة من اليهود ، ثم بيّن معاملتهم فقال : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } { أَخَذْنَا ميثاقهم } في الإنجيل ، بأن يتبعوا قول محمد صلى الله عليه وسلم { فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } يعني تركوا نصيباً مما أمروا به في الإنجيل من إتباع قول محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقال : نقضوا العهد كما نقض اليهود ، ويقال إنما سموا أنفسهم النصارى لأنهم نزلوا قرية يقال لها «ناصرة » ، نزل فيها عيسى عليه السلام فنزلوا هناك وتواثقوا بينهم ، ويقال : إنما سموا النصارى لقول عيسى : { فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصارى إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] .

ثم قال : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة } يعني ألقينا بينهم العداوة { والبغضاء } ويقال : الإغراء في أصل اللغة الإلصاق ، يقال : أغريت الرجل إغراءً إذا ألصقت به . ويقال : إن أصل العداوة التي كانت بينهم ألقاها إنسان يقال له «بولس » ، كان بينه وبين النصارى قتال ، وكان يهودياً فقتل منهم خلقاً كثيراً ، فأراد أن يحتال بحيلة يلقي بينهم القتال ليقتل بعضهم بعضاً ، فجاء إلى النصارى ، وجعل نفسه ، أعور وقال لهم : أتعرفوني ؟ فقالوا : أنت الذي قتلت منا وفعلت ما فعلت ، فقال : قد فعلت ذلك كله وأنا تائب ، لأني رأيت عيسى ابن مريم في المنام نزل من السماء ، فلطم وجهي لطمة وفقأ عيني . فقال : أي شيء تريد من قومي ؟ فتبت على يده ، وإنما جئتكم لأكون بين ظهرانيكم ، وأعلمكم شرائع دينكم ، كما علمني عيسى في المنام فاتخذوا له غرفة ، فصعد تلك الغرفة وفتح كوة إلى الناس في الحائط ، وكان يتعبد في الغرفة ، وربما كانوا يجتمعون إليه ويسألونه ويجيبهم من تلك الكوة ، وربما يأمرهم حتى يجتمعوا ويناديهم من تلك الكوة ، ويقول لهم بقول كان في الظاهر منكراً وينكرون عليه ، فكان يفسر ذلك القول بتفسير يعجبهم ذلك ، فانقادوا كلهم له وكانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به .

فقال لهم يوماً من الأيام : اجتمعوا قد حضرني علم ، فاجتمعوا ، فقال لهم : أليس قد خلق الله تعالى هذه الأشياء في الدنيا كلها لمنفعة بني آدم ؟ قالوا : نعم ، فقال لم تحرمون على أنفسكم هذه الأشياء ؟ يعني الخمر والخنزير وقد خلق لكم ما في الأرض جميعاً ، فأخذوا بقوله واستحلوا الخمر والخنزير ، فلما مضى على ذلك أيام دعاهم وقال : حضرني علم . فاجتمعوا وقال لهم : من أي ناحية تطلع الشمس ؟ فقالوا : من قبل المشرق . فقال : ومن أي ناحية يطلع القمر والنجوم ؟ فقالوا : من قبل المشرق . فقال : ومن يرسلهم من قبل المشرق ؟ قالوا : الله تعالى : فقال : فاعلموا أنه من قبل المشرق فإن صليتم له فصلوا إليه ، فحول صلاتهم إلى المشرق ، فلما مضى على ذلك أيام دعا طائفةً منهم وأمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة . وقال لهم : إني أريد أن أجعل نفسي الليلة قرباناً لأجل عيسى ، وقد حضرني علم وأريد أن أخبركم في السر لتحفظوا عني وتدعوا الناس إلى ذلك . ويقال أيضاً إنه أصبح يوماً وفتح عينه الأخرى ثم دعاهم وقال لهم : جاءني عيسى الليلة ، وقال : قد رضيت عنك ، فمسح يده على عيني فبرئت ، فالآن أريد أن أجعل نفسي قرباناً . ثم قال لهم : هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص إلا الله تعالى ؟ فقالوا : لا . فقال : إن عيسى قد فعل هذه الأشياء ، فاعلموا بأنه هو الله . فخرجوا من عنده . ثم دعا طائفة أخرى فأخبرهم بذلك أيضاً ، وقال : إنه كان ابنه ثم دعا بطائفة ثالثة وأخبرهم بأنه ثالث ثلاثة ، وأخبرهم بأنه يريد أن يجعل نفسه الليلة قرباناً ، فلما كان في بعض الليل خرج من بين ظهرانيهم ، فأصبحوا وجعلوا كل فريق منهم يقول : قد علمني كذا وكذا . وقال الفريق الآخر : أنت كاذب بل علمني كذا وكذا ، فوقع بينهم القتال فاقتتلوا وقتلوا خلقاً كثيراً وبقيت العداوة بينهم { إلى يَوْمِ القيامة } وهم ثلاث فرق ، فرقة بينهم النسطورية قالوا المسيح ابن الله . وصنف منهم يقال : لهم الماريعقوبية قالوا : إن الله هو المسيح . وصنف يقال لهم : الملكانية ، قالوا : إن الله ثالث ثلاثة المسيح وأمه والله . فأغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . ويقال : ألقى بينهم العداوة بالجدال والخصومات في الدين ، وذلك يحبط الأعمال . وقال معاوية بن قرة : إياكم وهذه الخصومات في الدين ، فإنها تحبط الأعمال . ثم قال : { وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } يعني : ينبئهم في الآخرة الذي هو على الحق .