البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

{ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } .

الظاهر أنّ من تتعلق بقوله : أخذنا وأنَّ الضمير في ميثاقهم عائد على الموصول ، وأنّ الجملة معطوفة على قوله : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } والمعنى : أنه تعالى أخذ من النصارى ميثاق أنفسهم وهو الإيمان بالله والرسل وبأفعال الخير .

وقيل : الضمير في ميثاقهم عائد على بني إسرائيل ، ويكون مصدراً شبيهاً أي : وأخذنا من النصارى ميثاقاً مثل ميثاق بني إسرائيل .

وقيل : ومن الذين معطوف على قوله : منهم ، من قوله : { ولا تزال تطلع على خائنة } منهم أي من اليهود ، ومن الذين قالوا إنا نصارى .

ويكون قوله : أخذنا ميثاقهم مستأنفاً ، وهذا فيه بعد للفصل ، ولتهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه دون ضرورة .

وقال قتادة : أخذ على النصارى الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فتركوا ما أمروا به .

وقال غيره : أخذ الميثاق عليهم بالعمل بالتوراة ، وبكتب الله المنزلة وأنبيائه ورسله .

وفي قوله : قالوا إنا نصارى ، توبيخ لهم وزجر عما ادعوه من أنهم ناصر ودين الله وأنبيائه ، إذ جعل ذلك منهم مجرد دعوى لا حقيقة .

وحيث جاء النصارى من غير نسبة إلى أنهم قالوا عن أنفسهم ذلك ، فإنما هو من باب العلم لم يلحظ فيه المعنى الأول الذي قصدوه من النصر ، كما صار اليهود علماً لم يحلظ فيه معنى قوله هُدنا إليك .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فهلا قيل : ومن النصارى ؟ ( قلت ) : لأنهم إنما سموا بذلك أنفسهم ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله ثم اختلفوا بعد إلى نسطورية ويعقوبية وملكانية انتهى .

وقد تقدم في أوائل البقرة أنه قيل : سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام تسمى ناصرة ، وقوله : وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله القائل لذلك هم الحواريون ، وهم عند الزمخشري كفار ، وقد أوضح ذلك على زعمه في آخر هذه السورة ، وعند غيرهم مؤمنون ، ولم يختلفوا هم ، إنما اختلف من جاء بعدهم ممن يدعي تبعيتهم .

{ فنسوا حظاً مما ذكروا به } قال أبو عبد الله الرازي : في مكتوب الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

والحظ هو الإيمان به ، وتنكيراً لحظ يدل على أن المراد به حظ واحد وهو الإيمان بالرسول ، وخص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا أكثر ما أمرهم الله به ، لأنّ هذا هو المعظم والمهم .

{ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } الضمير في بينهم يعود على النصارى قاله الربيع .

وقال الزجاج : النصارى منهم والنسطورية واليعقوبية والملكانية ، كل فرقة منهم تعادي الأخرى .

وقيل : الضمير عائد على اليهود والنصارى ، أي : بين اليهود والنصارى قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدّي : فإنهم أعداء يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً .

{ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } هذا تهديد ووعيد شديد بعذاب الآخرة ، إذ موجب ما صنعوا إنما هو الخلود في النار .