التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا} (2)

{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } .

تفريع على جميع ما تقدم من أحكام العدة معطوف على جملة { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] لأن إحصاءها بحفظ مدتها واستيعاب أيامها فإذا انتهت المدة فقد أعذر الله لهما والزيادة عليها إضرار بأحدهما أو بكليهما وفائدة الآجال الوقوف عند انتهائها .

وبلوغ الأجل أصله انتهاء المُدة المقدرة له كما يؤذن به معنى البلوغ الذي هو الوصول إلى المطلوب على تشبيه الأجل المعين بالمكان المسير إليه وشاع ذلك في الاستعمال فالمجاز في لفظ الأجل وتبعه المجاز في البلوغ وقد استعمل البلوغ في هذه الآية في مقاربة ذلك الإِنتهاء مبالغة في عدم التسامح فيه وهذا الاستعمال مجاز آخر لمشابهة مقاربة الشيء بالحصول فيه والتلبس به .

وقرينة المجاز هنا هو لفظ الأجل لأنه لا تتصور المراجعة بعد بلوغ الأجل لأن في ذلك رفع معنى التأجيل .

ومنه قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } في سورة [ البقرة : 231 ] .

والإمساك : اعتزام المراجعة عبر عنه بالإمساك للإيماء إلى أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة فيما عدا الاستمتاع فكأنه لما راجعها قد أمسكها أن لا تفارقه فكأنه لم يفارقها لأن الإِمساك هو الضن بالشيء وعدم التفريط فيه ومنه قوله تعالى : { أمسك عليك زوجك } [ الأحزاب : 37 ] وأنه إذا لم يراجعها فكأنه قد أعاد فراقها وقسا قلبه .

ومن أجل هذه النكتة جعل عدم الإمساك فراقاً جديداً في قوله : { أو فارقوهن بمعروف } .

والأمر في { فأمسكوهن } { أو فارقوهن } للإِباحة ، و { أو } فيه للتخيير .

والباء في { بمعروف } للملابسة أي ملابسة كل من الإِمساك والفراق للمعروف .

والمعروف : هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق .

فالمعروف في الإِمساك : حسن اللقاء والاعتذارُ لها عما فرط والعودُ إلى حسن المعاشرة .

والمعروف في الفراق : كف اللسان عن غِيبتها وإظهارِ الاستراحة منها .

والمعروف في الحالين من عمل الرَّجل لأنه هو المخاطب بالإِمساك أو الفراق .

وأما المعروف الذي هو من عمل المرأة فمقرر من أدلة أخرى كقوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } [ البقرة : 228 ] .

وتقديم الإِمساك أعني المراجعة على إمضاء المفارقة ، إيماء إلى أنه أرضى لله تعالى وأَوفَقُ بمقاصد الشريعة مع ما تقدم من التعبير عن المراجعة بالإمساك ، ففهم أن المراجعة مندوب إليها لأن أبْغض الحلال إلى الله الطلاق .

ولمَّا قيد أمر الإباحة من قوله : { فأمسكوهن } { أو فارقوهن } ، بقيد بالمعروف ، فُهم منه أنّه إن كان إمساك دون المعروف فهو غير مأذون فيه وهو الإمساك الذي كان يفعله أهل الجاهلية أن يطلق الرجل امرأته فإذا قاربت انتهاء عدتها راجعها أياماً ثم طلقها يفعل ذلك ثلاثاً ليطيل عليها من العدة فلا تتزوج عدة أشهر إضراراً بها .

وقد تقدم هذا عند قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ، إلى قوله : ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } في سورة [ البقرة : 231 ] .

{ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ منكم } .

ظاهر وقوع هذا الأمر بعد ذكر الإِمساك أو الفراق ، أنه راجع إلى كليهما لأن الإِشهاد جُعل تتمة للمأمور به في معنى الشرط للإِمساك أو الفراق لأن هذا العطف يشبه القيد وإن لم يكن قيداً وشأن الشروط الواردةِ بعد جمل أن تعود إلى جميعها .

وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإِشهاد على المراجعة وعلى بتّ الطلاق واجباً على الأزواج لأن الإِشهاد يرفع أشكالاً من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بُكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه وابن حنبل في أحد قوليه وروي عن عمران بن حصين وطَاوس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء . وقال الجمهور : الإِشهاد المأمور به الإِشهاد على المراجعة دون بتّ الطلاق .

أما مقتضى صيغة الأمر في قوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل } فقيل هو مستحب وهو قول أبي حنيفة والمشهورُ عن مالك فيما حكاه ابن القصار ولعل مستند هذا القول عدمُ جريان العمل بالتزامه بين المسلمين في عصر الصحابة وعصور أهل العلم ، وقياسه على الإِشهاد بالبيع فإنهم اتفقوا على عدم وجوبه وكلا هذين مدخول لأن دعوى العمل بترك الإِشهاد دونها مَنع ، ولأن قياس الطلاق والرجعة على البيع قد يقدح فيه بوجود فارق معتبر وهو خطر الطلاق والمراجعة وأهمية ما يترتب عليهما من الخصومات بين الأنساب ، وما في البيوعات مما يغني عن الإِشهاد وهو التقايض في الأعواض . وقيل الأمر للوجوب المراجعة دون الفرقة وهو أحد قولي الشافعي وأحمد ونسبه إسماعيل بن حماد من فقهاء المالكية ببغداد إلى مالك وهو ظاهر مذهب ابنِ بكير .

واتفق الجميع على أن هذا الإِشهاد ليس شرطاً في صحة المراجعة أو المفارقة لأنه إنما شرع احتياطاً لحقهما وتجنباً لنوازل الخصومات خوفاً من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق ، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك ، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور ، على أن جعل الشيء شرطاً لغيره يحتاج إلى دليل خاص غير دليل الوجوب لأنه قد يتحقق الإثم بتركه ولا يبطل بتركه ما أمر بإيقاعه معه مثل الصلاة في الأرض المغصوبة ، وبالثوب المغصوب . قال الموجبون للإِشهاد : لو راجع ولم يشهد أو بتّ الفراق ولم يشهد صحت مراجعته ومفارقته وعليه أن يشهد بعد ذلك .

قال يحيى بن بكير : معنى الإشهاد على المراجعة والمفارقة أن يشهد عند مراجعتها إنْ راجعها ، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها أنه قد كان طلقها وأن عدتها قد انقضت .

ولفقهاء الأمصار في صفة ما تقع المراجعة من صيغة بالقول ومن فعل ما هو من أفعال الأزواج ، تفاصيل محلها كتب الفروع ولا يتعلق بالآية إلا ما جعله أهل العلم دليلاً على المراجعة عند من جعله كذلك .

{ وَأَقِيمُواْ الشهادة لله } .

عطف على { وأشهدوا ذوي عدل منكم } .

والخطاب موجه لكل من تتعلق به الشهادة من المشهود عليهم والشهود كلٌ يأخذ بما هو حظه من هذين الخطابين . وليس هو من قبيل { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبكِ } [ يوسف : 29 ] لظهور التوزيع هناك باللفظ دون ما هنا فإنه بالمعنى فالكل مأمورون بإقامة الشهادة .

فتعريف الشهادة للاستغراق ، أي كل شهادة وهو استغراق عرفي لأن المأمور به الشهادة الشرعية .

ومعنى إقامة الشهادة : إيقاعها مستقيمة لا عوج فيها فالإقامة مستعارة لإيقاع الشهادة على مستوفيها ما يجب فيها شرعاً مما دلت عليه أدلة الشريعة وهذه استعارة شائعة وتقدم عند قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } في سورة [ البقرة : 282 ] .

وقوله : { لله } ، أي لأجل الله وامتثال أمره لا لأجل المشهود له ولا لأجل المشهود عليه ولا لأجل منفعة الشاهد والإبقاء على راحته . وتقدم بعض هذا عند قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } في سورة [ البقرة : 282 ] .

{ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } .

الإِشارة إلى جميع ما تقدم من الأحكام التي فيها موعظة للمسلمين من قوله : { وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم } [ الطلاق : 1 ] ، إلى قوله : { وأقيموا الشهادة لله } .

والوعظ : التحذير مما يضر والتذكير المليّن للقلوب وقد تقدم عند قوله تعالى : { ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله } في سورة [ البقرة : 232 ] وعند قوله تعالى : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله } في سورة [ النور : 17 ] .

{ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مخرجا } .

اعتراض بين جملة { وأقيموا الشهادة } وجملة { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] الآية ، فإن تلك الأحكام لما اعتبرت موعظة بقوله : { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } أعقب ذلك بقضيّة عامة ، وهي أن تلك من تقوى الله تعالى وبما لتقوى الله من خير في الدنيا والآخرة على عادة القرآن من تعقيب الموعظة والترهيب بالبشارة والترغيب .

ولمّا كان أمر الطلاق غير خال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق ، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده بأن يجعل لهم مخرجاً من الضائقات ، شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحالّ فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعللِ منفذ في المكان المغلق يتخلص منه المتضائق فيه .

ففي الكلام استعارة أن إحداهما ضمنية مطوية والأخرى صريحة وشمل المَخْرَج ما يحف من اللطف بالمتقين في الآخرة أيضاً بتخليصهم من أهوال الحساب والانتظار فالمخرج لهم في الآخرة هو الإِسراع بهم إلى النعيم .

ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإِنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضاً كثيراً للناس بعد التطليق ، أُتبع الوعد بجعل المخرَج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق .