السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا} (2)

ولما حدّ سبحانه ما يفعل في العدة أتبعه ما يفعل عند انقضائها بقوله تعالى : { فإذا بلغن } أي : المطلقات { أجلهن } أي : شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة { فأمسكوهن } أي : بالمراجعة وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق مادون البائن لاسيما الثلاث { بمعروف } أي : حسن عشرة لا لقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاد عدة أخرى ، أو غير ذلك . { أو فارقوهن } بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها { بمعروف } أي : بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر حسنه الشرع ، فلا يقصد أذاها بتفريقها عن ولدها مثلاً ، أو عنه إن كانت عاشقة له لقصد الأذى فقط من غير مصلحة ، وكذلك ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل والقول فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإفهامها اجتناب المنكرات .

تنبيه : قال بعض العلماء في قوله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } وقوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] إن : الزوج له حق في بدن الزوجة ولها حق في بدنه وذمته فكل من له دين في ذمة غيره سواء أكان مالاً ، أو منفعة من ثمن أو مثمن أو أجرة ، أو بدل متلف ، أو ضمان مغصوب ، أو نحو ذلك فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان ، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } [ البقرة : 178 ] وكذا الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك ، فالطالب يطلب بمعروف والمؤدي يؤدي بإحسان .

ولما كان الإشهاد أقطع للنزاع قال تعالى حاثاً على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة : { وأشهدوا } أي : على الرجعة والمفارقة ، وقيل : المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعاً { ذوي عدل منكم } قطعاً للنزاع ، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند الجمهور كقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } [ البقرة : 282 ] وأوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه ، والشافعي كذلك لظاهر الأمر . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الأخر : إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق .

وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة فليس بمراجع ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة فهو رجعة ، وكذا النظر إلى الفرج رجعة ، وقال الشافعي وأبو ثور : إذا تكلم بالرجعة فهي رجعة ، وقيل : وطؤه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها ، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية . قال القرطبي : وكان مالك يقول : إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد ، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ، وله الرجعة في بقية العدة الأولى ، وليست له الرجعة في هذا الاستبراء .

تنبيه : قوله تعالى : { منكم } قال الحسن : من المسلمين ، وعن قتادة : من أحراركم ، وذلك يوجد اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث لأن ذوى للمذكر . وقوله تعالى : { وأقيموا } أي : أيها المأمورون حيث كنتم شهوداً { الشهادة } التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها { لله } أي : مخلصين لوجه الملك الأعلى لا لأجل المشهود له والمشهود عليه ، ولا شيء سوى وجه الله تعالى .

وفيه حث على أداء الشهادة لما فيه من العسر على الشاهد بترك مهماته وعسر لقاء الحاكم الذي يؤدي عنده ، وربما بعد مكانه وكان للعدل في الأداء عوائق أيضاً { ذلكم } أي : الذي ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام ، وأولاها بذلك هذا الإشهاد وإقامة الشهادة { يوعظ } أي : يلين ويرقق { به من كان } أي : كوناً راسخاً من جميع الناس{ يؤمن بالله } أي : الذي له الكمال كله { واليوم الآخر } فإنه المحط الأعظم للترقيق ، وأما من لم يكن متصفاً بذلك فكأنه لقساوة قلبه ما وعظ به لأنه لم ينتفع به .

وقوله تعالى : { ومن يتق الله } أي : يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية بما يرضيه ، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهي عنه من الطلاق وغيره ، ظاهراً وباطناً لأن التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي ، وإن اقترنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي { يجعل } أي : بسبب التقوى { له مخرجاً } جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على اتقائه عما نهى عنه صريحاً أو ضمناً من الطلاق في الحيض والإضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكن ، وتعدى حدود الله تعالى . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً هل له من مخرج فتلاها » وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والثعلبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة ، أي : من طلق كما أمره الله تعالى يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة .

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً : يجعل له مخرجاً ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، وقيل : المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه ، قاله علي بن صالح . وقال الكلبي : ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة ، وقال الحسن : مخرجاً مما نهى الله عنه ، وقال أبو العالية : مخرجاً من كل شدة ، وقال الربيع بن خيثم : مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس ، وقال الحسين بن الفضل : ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجاً من العقوبة .