التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا} (2)

ثم بين - سبحانه - حكما يتعلق بما بين الزوجين من حقوق فقال - تعالى - : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . . . } .

والفاء فى قوله { فَإِذَا بَلَغْنَ . . } للتفريع على ما تقدم من أحكام تتعلق بالعدة .

والمراد ببلوغ أجلهن ، مقاربة نهاية مدة العدة بقرينة ما بعده ، لأن الرجل لا يؤمر بإمساك زوجه بعد انقضاء عدتها ، لأن الإمساك يكون قبل انقضائها .

فالكلام من باب المجاز ، لمشابهة مقاربة الشىء ، بالحصول فيه ، والتلبس به .

والمراد بالإمساك المراجعة وعدم السير فى طريق مفارقتها .

والمعروف : ما أم به الشرع من حسن المعاملة بين الزوجين ، وحرص كل واحد منهما على أداء ما عليه لصاحبه من حقوق .

والمعنى : لقد بينت لكم جانبا من الأحكام التى تتعلق بعدة النساء ، فإذا قاربن وشارفن آخر عدتهن ، فأمسكوهن وراجعوهن بحسن معاشرة ، أو فارقوهن بمعروف بأن تعطوهن حقوقهن كاملة غير منقوصة ، بأن تكفوا ألسنتكم عن ذكرهن بسوء .

والأمر فى قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ } و { فَارِقُوهُنَّ } للإباحة ، و " أو " للتخيير .

والتعبير بالإمساك للإشعار بأن المطلقة طلاقا رجعيا لها حكم الزوجة ، ما عدا الاستمتاع بها ، فعليه أن يستمسك بها ، ولا يتسرع فى فراقها ، فهى ما زالت فى عصمته .

وقدم - سبحانه - الإمساك على الفراق ، للإشارة إلى أنه هو الأولى رعاية لحق الزوجية ، وإبقاء للمودة والرحمة .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . . . } ثم قال - سبحانه - : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } أى : وأشهدوا عند المراجعة لأزواجكم وعند مفارقتكم لهن رجلين تتوفر فيهما العدالة والاستقامة لأن الإشهاد يقطع التنازع ، ويدفع الريبة ، وينفى التهمة .

والأمر فى قوله : { وَأَشْهِدُواْ } للندب والاستحباب فى حالتى المراجعة والمفارقة ، فهو كقوله - تعالى - : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وقال الشافعى فى القديم : إنه للوجوب فى الرجعة . وزعم الطبرسى أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق ، وأنه مروى عن أثمة أهل البيت ، وأنه للوجوب ، وشرط فى صحة الطلاق .

وقوله : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } معطوف على ما قبله ، والخطاب لكل من تتعلق به الشهادة .

والمراد بإقامة الشهادة : أداؤها بالعدل والصدق .

أى : وعليكم - أيها المؤمنون - عند أدائكم للشهادة ، أن تؤدوها بالعدل والأمانة ، وأن تجعلوها خالصة لوجه الله - تعالى - وامتثالا لأمره .

والجملة الكريمة دليل على أن أداء الشهادة على وجهها الصحيح عند الحكام وغيرهم ، أمر واجب ، لأن الشهادة هنا اسم للجنس ، ولأن الله - تعالى - يقول فى آية أخرى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ . . } والإشارة فى قوله - سبحانه - : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } تعود إلى جميع ما تقدم من أحكام ، كإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيت الزوجية حتى تنتهى عدتها ، والحث على أداء الشهادة بالحق والعدل .

والوعظ معناه : التحذير مما يؤذى بطريقة تؤثر فى القلوب ، وتهدى النفوس إلى الرشد .

أى : ذلك الذى ذكرناه لكم من أحكام إنما يتأثر به ، ويعمل بمقتضاه الذين يؤمنون بالله - تعالى - وباليوم الآخر إيمانا حقا .

وخص - سبحانه - الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام ، وهم المنفذون لها تنفيذا صحيحا .

ثم بشر - سبحانه - عباده الذين يتقونه ويراقبونه ببشارات متعددة فقال : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .

والجملة الكريمة اعتراض بين قوله - تعالى - : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } وبين قوله - سبحانه - بعد ذلك : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض } وجىء بهذا الاعتراض بين هذه الأحكام لحمل النفوس على تقبل تشريعاته - تعالى - وآدابه ، ولحض الزوجين على مراقبته - سبحانه - وتقواه .

أى : ومن يتق الله - تعالى - فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته . يجعل له - سبحانه - مخرجا من هموم الدنيا وضوائقها ومتاعبها ، ومن شدائد الموت وغمراته ، ومن أهوال الآخرة وعذابها ، ويزرقه الفوز بخير الدارين ، من طرق لا تخطر له على بال ، ولا ترد له على خاطر ، فإن أبواب رزقه - سبحانه - لا يعلمها أحد إلا هو - عز وجل - .

وفى هذه الجملة الكريمة ما فيها من البشارة للمؤمن ، حتى يثبت فؤاده ، ويستقيم قلبه ، ويحرص على طاعة الله - تعالى - فى كل أحواله .

قال القرطبى : قال أبو ذر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ، ثم تلا : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .

وعن جابر بن عبد الله قال : نزلت هذه الآية فى عوف بن مالك الأشجعى ، أسر المشركون ابنا له ، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك . فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " اتق الله واصبر ، وآمرك وزوجك أن تستكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " .

فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنى وإياك أن نستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله . فقالت : نعم ما أمرنا ، فجعلا يقولان ذلك ، فغفل العدو عن ابنه ، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه عوف ، فنزلت الآية . .

ثم قال - تعالى - : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .

ولفظ { حَسْبُ } بمعنى كاف وأصله اسم مصدر أو مصدر ، ومعنى { بَالِغُ أَمْرِهِ } بإضافة الوصف إلى مفعوله ، أى : يبلغ ما يريده - سبحانه - ، وقرأ الجمهور { بَالِغُ أَمْرِهِ } بتنوين الوصف ونصب أمره على المفعولية ، والمراد بأمره ، شأنه ومراده .

وهذه الجملة تعليل لما قبلها .

أى : ومن يفوض أمره إلى الله - تعالى - ويتوكل عليه وحده ، فهو - سبحانه - كافيه فى جميع أموره ، لأنه - سبحانه - يبلغ ما يريده ، ولا يفوته مراد ، ولا يعجزه شىء ، ولا يحول دون أمره حائل . . . ومن مظاهر حكمه فى خلقه ، أنه عز وجل - قد جعل لكل شىء تقديرا قبل وجوده ، وعلم علما تاما مقاديرها وأوقاتها وأحوالها .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وقوله - سبحانه - : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } وقوله - عز وجل - : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } قال بعض العلماء ما ملخصه : ولهذه الجملة ، وهى قوله - تعالى - : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن ، فى ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض . . . فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البيانى الناشىء عما اشتملت عليه جمل : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . . } إلى قوله : { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت ، فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله ، فيقول : أين أنا من تحصيل هذا الشىء . . . ويتملكه اليأس . . . فيقول الله - تعالى - له : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أى : فلا تيأس أيها الإنسان .

ولها موقع التعليل الجملة { وَأَحْصُواْ العدة } فإن العدة من الأشياء التى تعد ، فلما أمر الله بإحصائها علل ذلك فقال : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .

ولها موقع التذبيل لجملة { وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أى : الذى وضع تلك الحدود ، قد جعل الله لكل شىء قدرا لا يعدوه ، كما جعل الحدود .

ولها موقع التعليل لجملة : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذى جعله الله لمدة العدة ، فقد حصل المقصد الشرعى ، الذى أشار إليه بقوله - تعالى - : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } .

ولها موقع التعليل لجملة : { وَأَقِيمُواْ الشهادة } فإن الله - تعالى - جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع .

فهذه الجملة جزء آية ، وهى تحتوى على حقائق من الحكمة . . .