فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا} (2)

{ فإذا بلغن أجلهن } أي قاربن انقضاء أجل العدة وشارفن آخرها { فأمسكوهن بمعروف } أي راجعوهن بحسن معاشرة ، وإنفاق مناسب ، ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن بطلاق آخر ، لأجل إيجاب عدة أخرى ، وغير ذلك { أو فارقوهن بمعروف } أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن ، فيملكن نفوسهن مع إيفائهن بما هو لهن عليكم من الحقوق ، وترك المضارة لهن بالفعل والقول ، فقد ضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإفهامها اجتناب المنكرات .

{ وأشهدوا ذويْ عدل منكم } أي صاحبي عدالة ، فإن العدل ضد الجور وهو يرجع إلى معنى العدالة ، وهذه شهادة على الرجعة ، وقيل : على الطلاق ، وقيل : عليهما قطعا للتنازع وحسما لمادة الخصومة ، والأمر للندب لئلا يقع بينهما التجاحد ، كما في قوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وقيل : إنه للوجوب وإليه ذهب الشافعي ، قال : الإشهاد واجب في الرجعة مندوب إليه في الفقرة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، وفي قول الشافعي : إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق ، وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد ، وعن ابن سيرين أن رجلا سأل عمران بن حصين عن رجل طلق ولم يشهد ، قال : بئسما صنع طلق في بدعة وارتجع في غير سنة ، فيشهد على طلاقه وعلى مراجعته ويستغفر الله .

{ وأقيموا الشهادة لله } هذا أمر للشهود بان يأتوا بما شهدوا به تقريبا إلى الله . وإنما حث على أداء الشهادة لما فيه من العسر على الشهود ، لأنه ربما يؤدي إلى أن يترك الشاهد مهماته ولما فيه من عسر لقاء الحاكم الذي يؤدي عنده ، وربما بعد مكانه ، وكان للشاهد عوائق ، وقيل : الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة أي الشهود عند الرجعة فيكون قوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أمرا بنفس الإشهاد ، { وأقيموا الشهادة } أمر بأن تكون خالصة لله لا لمشهود عليه ، أو له ، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر .

{ ذلكم } أي ما تقدم من الأمر بالإشهاد وإقامة الشهادة لله ، أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا { يوعظ به } أي يلين ويرقق به { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } خص المؤمن لأنه المنتفع بذلك دون غيره .

{ ومن يتق الله جعل له مخرجا } مما وقع فيه من الشدائد والمحن ، والجملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، والمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ، ولم يخرجها من مسكنها ، واحتاط فأشهد ، يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ، ويفرج عنه ويعطيه الخلاص . قال ابن مسعود : مخرجه أن يعلم أنه من قبل الله ، وأن الله هو الذي يعطيه ، وهو يمنعه ، وهو يبتليه ، وهو يعافيه ، وهو يدفع عنه .

وقال ابن عباس ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة .

" وعن جابر قال : نزلت هذه الآية في رجل من أشجع كان فقيرا خفيف ذات اليد كثير العيال ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : اتق الله واصبر ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن له بغنم كان العدو أصابوه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عنها وأخبره خبرها فقال : كلها فنزلت : { ومن يتق الله الآية } " أخرجه ( {[1590]} ) الحاكم وصححه وضعفه الذهبي .

" وعن ابن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن ابني أسره العدو ، وجزعت أمه فما تأمرني ؟ قال : آمرك وإياها أن تستكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقالت المرأة : نعم ما أمرك ، فجعلا يكثران منها فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم ، فجاء بها إلى أبيه فنزلت هذه الآية " أخرجه ( {[1591]} ) ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه ، وفي الباب روايات تشهد لهذا ، وعن عائشة في الآية قالت : يكفيه هم الدنيا وغمها .

" وعن أبي ذر قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية فجعل يرددها حتى نعست ، ثم قال : يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم " ، وفي الباب أحاديث ، وقال الكلبي : ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجا من النار إلى الجنة ، وقال الحسن . مخرجا مما نهى الله عنه ، قال أبو العالية مخرجا من كل شيء ضيق على الناس ، قال الشعبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرجا في الرجعة في العدة ، وأنه يكون كأحد الخطاب بعد العدة .


[1590]:رواه الحاكم.
[1591]:رواه مسلم.