تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا} (2)

الآية 2 وقوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } فيه فوائد شتى ، وأدلة متفرقة من الفقه والأحكام .

أحدها : أن الله تعالى قال : { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } والمعروف إليها في المتعارف من نوع الفعل أظهر من نوع القول ، لأنه إنما يحسن إليها استمتاعا وإنفاقا ونحو ذلك ، فذلك نوعه نوع الفعل ، فثبت أن حقيقة الإمساك بالمعروف في الأفعال . فلذلك قلنا : إنه إذا راجعها[ بالفعل يكون مراجعا ]{[21450]} .

فإن قيل : أليس قال الله تعالى : قال الله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } والإشهاد على الفعل غير صحيح ؟

فجوابه أن يقال : إن الله تعالى قال : { وأشهدوا } ومعلوم أن هذا لو كان يحضره الشهود لم يكن للإشهاد معنى ، بل إذا سمعوا ذلك صاروا شهودا شهدوا ، أو لم يشهدوا .

وإذا كان كذلك ثبت أن المعنى من هذا الإشهاد على الإمساك المتقدم ، وذلك في الأفعال مستقيم ، والله أعلم .

ووجه آخر ، وهو أن كل عهد استقام بغير شهود ، جرى فيه الأمر بالإشهاد نحو قوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم }

[ البقرة : 282 ] وكل ما جعل فيه الشهود شرطا لقوام العقد ، جرى الذكر فيه[ لا يثبت ]{[21451]} إلا بشهود نحو قوله صلى الله عليه وسلم {[21452]} : ( ( لا نكاح إلا بشهود ) )[ نصب الراية 3/167/ ] فلما جرى الذكر في هذه الآية بالأمر بالإشهاد وبقوله تعالى : { وأشهدوا ذوى عدل منكم } ثبت أنه[ لا ]{[21453]} يستقيم من غير شهود ، والله أعلم .

ثم في قوله : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } دليل على أن المراد من الأقراء{[21454]} الحيض ، فإنه ذكر نوع هذا في كتاب الله في مواضع :

قال الله تعالى في موضع : { فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } [ البقرة : 234 ] وقال في آية أخرى : { فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } [ البقرة : 232 ] وقال في هذا الموضع :

{ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } .

ومعلوم أن المعاني بهذه الألفاظ مختلفة ، وإن اتفقت مخارجها ، واختلافها أن يكون المراد ببلوغ الأجل في أحد

النوعين على التمام وانقضاء الأجل ، والثاني على الإشراف عليه .

وأحق ما يكون في حق الإشراف على البلوغ ، هو ما يرجع إلى الأزواج ، لأنه قد كان لهم حق الإمساك قبل انقضاء الأجل ، وهم أحق بهن {[21455]} ما لم يتم بلوغ الأجل لا بعده .

وإذا ثبت أن المعنى من قوله : { فإذا بلغن أجلهن } في هذا الموضع ، هو الإشراف على البلوغ والقرب من انقضاء الأجل ، دون التمام ثبت الأقراء أنه{[21456]} الحيض ، لأنه لو كان المراد منه الأطهار لم يعرف إشراف الأجل على البلوغ ، لأنه لا نهاية لأكثر الطهر .

وأما الحيض فإنه له غاية معلومة ، لأن أيامها ، لا تخلو : إما أن تكون عشرة أو دون العشرة . فإن كانت عشرة فتعرف بالعد ، وإن كانت دون العشرة فإن دمها إذا انقطع راجعها قبل أن تغتسل ، وذلك وقت إشراف أجلها على البلوغ .

والأطهار لا يتحقق فيها المعنى الذي وصفنا ، والله أعلم .

ثم قال ههنا { فأمسكوهن بمعروف } فدل الأمر بالإمساك في الظاهر أنها ما دامت في العدة فهي على ملكه . وقال في موضع آخر : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } [ البقرة : 228 ] فدل على أنه قد وقع شيء من الزوال حتى أمره بردها ، فيكون

حجة للشافعي في أن الطلاق الرجعي يحرم الوطء .

ولكن المعنى عندنا في هذا ، والله أعلم ، أنا قد عرفنا بقوله : { أو فارقوهن بمعروف } بعد وجود الطلاق المتقدم أنه لم يرد به الفرقة للحال ، ولكن معناه : اتركوهن حتى تنقضي عدتهن ، فتفارقوهن .

فثبت أنه قد وقع شيء من شبهة الفراق بالطلاق ، وهو أن صار الفراق مستحقا لازما حال انقضاء العدة ، فيكون له عرض الوجود للحال ، فقال : { فأمسكوهن } على إبقائهن على أصل الملك ، وقال : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } [ البقرة228 ] لرفع تلك الشبهة الواقعة بالطلاق .

وهذا على سبيل ما قال تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءو فإن الله غفور رحيم } { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } [ البقرة : 226و227 ] وكان الفيء هو الرجوع .

ومعلوم أنه لم{[21457]} بالإيلاء شيء من الفرقة ، ولكن لما كان الإيلاء موجبا للبينونة في العقبى أوجب في الحال شبهة الفرقة ، وهو : استحقاق الزوال ، فذكر الفيء لرفع تلك الشبهة ، فكان تركها منه لا يفيء إليها عزم منه على الطلاق ، فكذلك الأول .

والمعرفة إذا صنع لك إنسان صنيعة ، فعرفتها ، واستحسنتها ، فهو معروف ، وما دفعته ، وأنكرته فليس بمعروف ، أو هو الذي عرفنا الله تعالى من المراجعة والمفارقة .

ثم المعروف في الحقيقة ما تطمئن إليه القلوب ، وتسكن {[21458]} عنده الأنفس .

وقوله تعالى : { وأشهدوا ذوى عدل منكم } دل قوله تعالى : { ذوى عدل منكم } أن قد يكون منا فسّاق ، وأن الفسق لا يخرج {[21459]} ، وكذلك قوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } [ البقرة : 282 ] .

فثبت أن قد يكون منا من لا يرضى ، وأن خروجه ممن يرضى لا يخرجه من الإيمان .

وقوله تعالى : { وأقيموا الشهادة لله }حين{[21460]} أضافها إلى نفسه ، هو أنه لا بد من الشهادة من نفع يقع لأحد الخصمين وضرر يرجع إلى الآخر ، فكأنه قال : لا ينظر أحد إلى رضا من تنفعه الشهادة وإلى سخط من تضره ، ولكن اجعلوها لله تعالى .

وقوله تعالى : { ذلكم يوعظ به ، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر }الموعظة ، وإن كانت لمن يؤمن ، فالمعنى في هذا : ذلكم يتعظ بما { يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } كما كان المعنى من قوله تعالى : { إنما نندر من اتبع الذكر } [ يس : 11 ]أي إنما ينتفع بالإنذار من يتبع الذكر ، وكما كان في قوله : { يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به } [ البقرة : 121 ]أي ينتفعون بتلاوته ، فكذلك الأول ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { يوعظ به }أي بما أمر في ما تقدم من الآيات للعدة والنهي عن إخراجهن من البيوت والإنفاق ونحوه ، أي يأخذ بما أمر به ، ونهى عنه في هذه الآيات { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } والله أعلم .


[21450]:من م: ساقطة من الأصل.
[21451]:في الأصل: لا، ساقطة من م.
[21452]:ساقطة من الأصل و م.
[21453]:ساقطة من الأصل و م.
[21454]:أدرج بعدها في الأصل و م: في.
[21455]:في الأصل و م: بهم.
[21456]:في الأصل و م: بهم.
[21457]:أدرج بعدها في الأصل و م: شيء.
[21458]:في الأصل و م: وتشكر.
[21459]:في الأصل و م: يخرجه.
[21460]:في الأصل و م: حيث.