التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ} (5)

انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خِلقة السماوات ، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإِتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذِكر بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية ، فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالةً على إتقان الصنع لكونها نصب أعين المخاطبين ، ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم . وتأكيد الخبر ب ( قد ) لأنه إلى أنه نتيجة الاستفهام التقريري المؤكد ب ( هل ) أختتِ ( قد ) في الاستفهام .

والكلام على السماء الدنيا ولماذا وصفت بالدنيا وعن الكواكب تقدم في أول سورة الصافات .

وسميت النّجوم هنا مصابيح على التشبيه في حسن المنظر فهو تشبيه بليغ .

وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال ، أي زيَّنَاها لكم مثل الامتنان في قوله : { ولكم فيها جَمال } في سورة النحل ( 6 ) .

والمقصد : التخلص إلى ذكر رجم الشياطين ليتخلص منه إلى وعيدهم ووعيد متبعيهم .

وعدل عن تعريف ( مصابيح ) باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم .

والرجوم : جمع رَجْم وهو اسْم لما يُرجم به ، أي ما يرمي به الرامي من حجر ونحوه تسميةً للمفعول بالمصدر مثل الخَلْق بمعنى المخلوق في قوله تعالى : { هذا خَلق الله } [ لقمان : 11 ] .

والذي جُعل رُجوماً للشياطين هو بعض النجوم التي تبدو مضيئة ثم تلوح منقَضَّة ، وتسمى الشُهُب ومضى القول عليها في سورة الصافات .

وضمير الغائبة في { جعلناها } المتبادر أنه عائد إلى المصابيح ، أي أن المصابيح رجوم للشياطين .

ومعنى جعل المصابيح رجوماً جار على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة كقوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 85 ] وقول العرب : قتلت هُذيل رضيع بني ليث تمَّام بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب .

وجعل بعض المفسرين الضمير المنصوب في { جعلناها } عائد إلى { السماء الدنيا } على تقدير : وجعلنا منها رجوماً إما على حذف حرف الجر . وإمّا على تنزيل المكان الذي صدر منه الرجوم منزلة نفس الرجوم فهو مجاز عقلي ومنه قوله تعالى : { فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها } في سورة البقرة ( 66 ) ولكنها على جعل الضمير المنصوب راجعاً إلى القرية وإن لم تذكر في تلك الآية ولكنها ذكرت في آية سورة الأعراف ( 163 ) { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } وقصتها هي المشار إليها بقوله : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } [ البقرة : 65 ] فالتقدير : فجعلنا منها ، أي من القرية نكالاً ، وهم القوم الذين قيل لهم { كونوا قردة خاسئين } [ البقرة : 65 ] .

والشياطين هي التي تسترق السمع فتطردها الشهب كما تقدم في سورة الصافات .

وأصل { أعتدنا } أعدَدْنا أي هيّأنا ، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيهما ليتأتى الإِدغَام طلباً للخفة .

و { السعير } : اسم صيغ على مثال فعيل بمعنى مفعول من : سَعَرَ النار ، إذا أوقدها وهو لهب النار ، أي أعددنا للشياطين عذاب طبقة أشد طبقات النار حرارة وتوقداً فإن جهنم طبَقَات .

وكان السعير عذاباً لشياطين الجن مع كونهم من عنصر النار لأنّ نار جهنم أشد من نار طبعهم ، فإذا أصابتهم صارت لهم عذاباً .

وتسمية عذابهم { السعير } دون النار ، أو جهنم مراد لهذا المعنى ومثله قوله تعالى في عذاب الجن { ومن يَزغ منهم عن أمرنا نُذقه من عذاب السعير } [ سبأ : 12 ] وقال { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } [ فاطر : 6 ] يعني الشيطان .

ومعنى الإِعداد يحتمل أنه إعداد تقدير وإيجاد فلا يقتضي أن تكون جهنم مخلوقة قبل يوم القيامة ويحتمل أنه إعداد استعمال ، فتكون جهنم مخلوقة حين نزول الآية وقد اختلف علماؤنا في أن النار موجودة أو توجد يوم الجزاء إذ لا دليل في الكتاب والسنة على أحد الاحتمالين وإنما دعاهم إلى فرض هذه المسألة تأويل بعض الآيات والأحاديث .