اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ} (5)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ } ، أي : السماء القربى ؛ لأنها أقرب السماوات إلى النَّاس ، والمعنى : السَّماء الدُّنيا من النَّاس أي : الدنيا منكم لأنها «فعلى » تأنيث «أفعل » التفضيل ، «بِمصَابِيحَ » جمع مصباح وهو السِّراجُ ، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها ، وسماها زينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح ، فكأنه قال : ولقد زيَّنَّا سقف الدارِ التي اجتمعتم فيها بمصابيح الأنوار{[57357]} .

قوله : { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } .

الضمير في «وَجَعَلْنَاهَا » يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه يعود على «مَصَابِيحَ » .

قيل : وكيفية الرَّجْم أن توجد نار من ضوء الكواكب يرمى بها الشيطانُ ، والكوكب في مكانه لا يرجم به . قاله أبو علي جواباً لمن قال : كيف تكون زينةً وهي رجوم لا تبقى ؟ .

قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكوكب .

والثاني : أن الضمير يعود على السماء ، والمعنى : وجعلنا منها ؛ لأن ذات السماء ليست للرجوم .

قاله أبو حيان{[57358]} . وفيه نظر لعدم عود الضمير على السَّماء .

قال القرطبي{[57359]} : والمعنى جعلنا شُهُباً ، فحذف المضاف ، بدليل قوله { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ }[ الصافات : 10 ] ، قال : وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها .

قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق دون موضع الكوكب .

وقال القشيريُّ : وأحسن{[57360]} من قول أبي علي أن نقول : هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين .

والرجوم : جمع رجمٍ ، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير .

ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته ، ويقدر مضاف ، أي : ذات رجوم .

وجمع المصدر باعتبار أنواعه ، فعلى الأول يتعلق قوله : «للشَّياطينِ » بمحذوف على أنه صفة ل «رُجُوماً » .

وعلى الثاني : لا تعلق له ؛ لأن اللام مزيدة في المفعول به ، وفيه دلالة حينئذ على إعمال المصدر منوناً مجموعاً .

ويجوز أن تكون صفة له أيضاً كالأول ، فيتعلق بمحذوف .

وقيل : الرجوم هنا الظنون ، والشياطين : شياطين الإنس .

كما قال : [ الطويل ]

4796 - . . . *** ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ{[57361]}

فيكون المعنى : جعلناها ظُنُوناً ورجوماً بالغيبِ ، لشياطين الإنس ، وهم الأحكاميون من المنجمين .

فصل في خلق النجوم

قال قتادةُ : خلق الله النُّجوم لثلاثٍ : زينة السَّماءِ ورجوماً للشياطين ، وعلاماتٍ يهتدى بها في البرِّ والبحرِ والأوقاتِ ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به ، وتعدى ، وظلم{[57362]} .

وقال محمد بن كعب : والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يتَّخذون الكهانة ، ويتَّخذون النُّجوم علةً{[57363]} .

فصل

قال ابن الخطيب{[57364]} : ظاهر الآيةِ لا يدلّ على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا ؛ لأن السماوات إذا كانت شفافة ، فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا ، أو في سماوات أخرى فوقها ، فهي ولا بُد أن تظهر في السَّماء الدنيا ، ولتلوح منها ، فعلى التقدير تكون السماء الدنيا متزينة ، واعلم أنَّ أصحاب الهيئةِ اتفقوا على أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن الذي فوق كرات السياراتِ ، واحتجوا أن بعض الثوابت في الفلك الثامن ، فيجب أن تكون كلها هناك .

وإنما قلنا : إن بعضها في الفلك الثامن ، لأن الكواكب القريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات ، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة ، وإنما قلنا : إن الثوابت لما كانت في الفلك الثَّامن وجب أن تكون كلها هناك ؛ لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة ، فلا بُدَّ وأن تكون مركوزةً في كرة واحدة .

قال ابن الخطيب{[57365]} : وهذه استدلالاتٌ ضعيفة ؛ فإنه لا يلزم من كون بعض الثَّوابت فوق السيارة كون كلها هناك ؛ لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر ، وتكون في النظر مساوية لكرة الثوابت ، وتكون الكواكب المركوزة فيها مقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية ؛ إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة ، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون المصابيح مركوزة في سماء الدنيا ، فثبت بهذا ضعف مذاهب الفلاسفة .

فصل في سبب الرجوم

قال ابن الخطيب{[57366]} : يروى أن السبب في الرجوم أن الجن كانت تسمع خبر السماء ، فلما بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورجمت الشياطين ، فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب ، فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض ، فيلقيه إلى النَّاس ، فيختلط على النبي أمره ، ويرتاب النَّاس بخبره . ومن النَّاس من طعن في هذا من وجوه :

أحدها : أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة ، قالوا : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس إذا بلغ النَّار التي دون الفلك احترق بها ، فتلك الشعلة هي الشهاب .

وثانيها : أن الجن إذا شاهدوا جماعة منهم يسترقون ، فيحرقون إن امتنع أن يعودوا لذلك .

وثالثها : أن ثُخْنَ السماء مسيرة خمسمائة سنةٍ ، فالجن لا يقدرون على خرقها ؛ لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور ، وثخنها يمنعهم من السمع لأسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ، وإذا سمعوه من ذلك البعد ، فهم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض .

ورابعها : أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة ، إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ ، أو لأنهم نقلوها من وحي الله إليهم ، وعلى التقديرين ، فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يمكنوا الجن من معرفتها .

وخامسها : أن الشياطين مخلوقون من النار ، والنار لا تحرق النار ، بل تقويها .

وسادسها : إن كان هذا القذف لأجل النبوة فلم بقي بعدها ؟ .

وسابعها : أن هذه الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض ، لأنا نشاهدها بالعين ، ومع البعد لا نشاهدها كما لا نشاهد حركات الكواكب .

وثامنها : إن كانت الشياطين ينقلون أخبار الملائكةِ عن المغيبات إلى الكهنة ، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار ، حتى يتوصل الكفار بذلك إلى إلحاق الضرر بالمؤمنين ؟ .

وتاسعها : لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء ؟ .

والجواب عن الأول : أنا لا ننكر أن هذه الشُّهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم .

وعن الثاني : أنه إذا جاء القدر عمي البصر ، فإذا قضى الله على طائفة منها بالحرق لطغيانها ، قيَّض الله لها من الدواعي ما يقدمها على العملِ المفضي إلى هلاكها .

وعن الثالث : أن نمنع كون ثخن الفلك ما ذكروه ، بأن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام .

وعن الرابع : ما روى الزهري عن علي بن الحسين ، عن علي بن أبي طالب قال : «بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في نفرٍ من أصحابه ، إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : مَا كُنْتُمْ تقُولُونَ فِي الجَاهليَّةِ إذَا حدث ؟ قال : كنا نقول : يولد عظيم أو يموت عظيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإنَّها لا تُرْمَى لمَوْتِ أحدٍ ، ولا لِحياتهِ ، ولكِنَّ اللَّه - تعالى - إذا قَضَى الأمْرَ في السَّماءِ سبَّحتْ حملةُ العرشِ ، ثُمَّ يُسبِّحُ أهلُ كُلِّ سماءٍ ، وتسبِّحُ كُل سماءٍ ، حتى ينتهي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ ، ويَسْتخبرُ أهلُ السَّماءِ حملة العَرْشِ ماذا قال ربُّكُمْ ؟ فيُخبرُونهُمْ ، ولا يَزالُ يَنْتَهِي ذلِكَ الخَبَرُ من سماءٍ إلى سماءٍ إلى أن يَنْتَهِي الخبرُ إلى هذه السَّماء فتَخْطَفُهُ الجِنُّ فَيُرمَونَ ، فمَا جَاءُوا به فَهُوَ حَقٌّ ، ولكنَّهم يزيدُون فِيهِ " {[57367]} .

وعن الخامس : أنَّ نار النجومِ{[57368]} قد تكون أقوى من نارِ الجن .

وعن السادس : أنه - عليه الصلاة والسلام - أخبر ببطلان الكهانةِ ، فلو لم ينقطعوا لعادت الكهانة ، وذلك يقدح في خبر الرسولِ عليه الصلاة والسلام .

وعن السابع : أن البعد غير مانع من السماءِ عندنا .

وعن الثامن : لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة ، وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين .

وعن التاسع : أن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .

قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } . لما ذكر منافع الكواكب ، وذكر من جملة تلك المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } ، أي : وأعتدنا للشَّياطين بعد الإحراق بالشُّهب في الدنيا عذاب السَّعير في الآخرة ، وهو أشدُّ الحريقِ .

قال المبردُ : سعرت النَّار فهي مسعورة وسعير ، مثل قوله : مقتولة وقتيل .

وهذه الآية تدل على أن النَّار مخلوقة ؛ لأن قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } خبر عن الماضي .


[57357]:ينظر الفخر الرازي 30/53.
[57358]:ينظر: البحر المحيط 8/293.
[57359]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/138.
[57360]:في ب: وأمثل.
[57361]:تقدم.
[57362]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/166) وذكره القرطبي في "تفسيره" (18/138).
[57363]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/138).
[57364]:ينظر: الفخر الرازي 30/53.
[57365]:السابق.
[57366]:السابق 30/54.
[57367]:أخرجه أحمد (1/218) والبيهقي (8/138) عن ابن عباس.
[57368]:في أ: الرجوم.