قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ } ، أي : السماء القربى ؛ لأنها أقرب السماوات إلى النَّاس ، والمعنى : السَّماء الدُّنيا من النَّاس أي : الدنيا منكم لأنها «فعلى » تأنيث «أفعل » التفضيل ، «بِمصَابِيحَ » جمع مصباح وهو السِّراجُ ، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها ، وسماها زينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح ، فكأنه قال : ولقد زيَّنَّا سقف الدارِ التي اجتمعتم فيها بمصابيح الأنوار{[57357]} .
قوله : { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } .
الضمير في «وَجَعَلْنَاهَا » يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه يعود على «مَصَابِيحَ » .
قيل : وكيفية الرَّجْم أن توجد نار من ضوء الكواكب يرمى بها الشيطانُ ، والكوكب في مكانه لا يرجم به . قاله أبو علي جواباً لمن قال : كيف تكون زينةً وهي رجوم لا تبقى ؟ .
قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكوكب .
والثاني : أن الضمير يعود على السماء ، والمعنى : وجعلنا منها ؛ لأن ذات السماء ليست للرجوم .
قاله أبو حيان{[57358]} . وفيه نظر لعدم عود الضمير على السَّماء .
قال القرطبي{[57359]} : والمعنى جعلنا شُهُباً ، فحذف المضاف ، بدليل قوله { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ }[ الصافات : 10 ] ، قال : وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها .
قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق دون موضع الكوكب .
وقال القشيريُّ : وأحسن{[57360]} من قول أبي علي أن نقول : هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين .
والرجوم : جمع رجمٍ ، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير .
ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته ، ويقدر مضاف ، أي : ذات رجوم .
وجمع المصدر باعتبار أنواعه ، فعلى الأول يتعلق قوله : «للشَّياطينِ » بمحذوف على أنه صفة ل «رُجُوماً » .
وعلى الثاني : لا تعلق له ؛ لأن اللام مزيدة في المفعول به ، وفيه دلالة حينئذ على إعمال المصدر منوناً مجموعاً .
ويجوز أن تكون صفة له أيضاً كالأول ، فيتعلق بمحذوف .
وقيل : الرجوم هنا الظنون ، والشياطين : شياطين الإنس .
4796 - . . . *** ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ{[57361]}
فيكون المعنى : جعلناها ظُنُوناً ورجوماً بالغيبِ ، لشياطين الإنس ، وهم الأحكاميون من المنجمين .
قال قتادةُ : خلق الله النُّجوم لثلاثٍ : زينة السَّماءِ ورجوماً للشياطين ، وعلاماتٍ يهتدى بها في البرِّ والبحرِ والأوقاتِ ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به ، وتعدى ، وظلم{[57362]} .
وقال محمد بن كعب : والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يتَّخذون الكهانة ، ويتَّخذون النُّجوم علةً{[57363]} .
قال ابن الخطيب{[57364]} : ظاهر الآيةِ لا يدلّ على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا ؛ لأن السماوات إذا كانت شفافة ، فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا ، أو في سماوات أخرى فوقها ، فهي ولا بُد أن تظهر في السَّماء الدنيا ، ولتلوح منها ، فعلى التقدير تكون السماء الدنيا متزينة ، واعلم أنَّ أصحاب الهيئةِ اتفقوا على أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن الذي فوق كرات السياراتِ ، واحتجوا أن بعض الثوابت في الفلك الثامن ، فيجب أن تكون كلها هناك .
وإنما قلنا : إن بعضها في الفلك الثامن ، لأن الكواكب القريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات ، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة ، وإنما قلنا : إن الثوابت لما كانت في الفلك الثَّامن وجب أن تكون كلها هناك ؛ لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة ، فلا بُدَّ وأن تكون مركوزةً في كرة واحدة .
قال ابن الخطيب{[57365]} : وهذه استدلالاتٌ ضعيفة ؛ فإنه لا يلزم من كون بعض الثَّوابت فوق السيارة كون كلها هناك ؛ لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر ، وتكون في النظر مساوية لكرة الثوابت ، وتكون الكواكب المركوزة فيها مقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية ؛ إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة ، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون المصابيح مركوزة في سماء الدنيا ، فثبت بهذا ضعف مذاهب الفلاسفة .
قال ابن الخطيب{[57366]} : يروى أن السبب في الرجوم أن الجن كانت تسمع خبر السماء ، فلما بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورجمت الشياطين ، فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب ، فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض ، فيلقيه إلى النَّاس ، فيختلط على النبي أمره ، ويرتاب النَّاس بخبره . ومن النَّاس من طعن في هذا من وجوه :
أحدها : أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة ، قالوا : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس إذا بلغ النَّار التي دون الفلك احترق بها ، فتلك الشعلة هي الشهاب .
وثانيها : أن الجن إذا شاهدوا جماعة منهم يسترقون ، فيحرقون إن امتنع أن يعودوا لذلك .
وثالثها : أن ثُخْنَ السماء مسيرة خمسمائة سنةٍ ، فالجن لا يقدرون على خرقها ؛ لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور ، وثخنها يمنعهم من السمع لأسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ، وإذا سمعوه من ذلك البعد ، فهم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض .
ورابعها : أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة ، إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ ، أو لأنهم نقلوها من وحي الله إليهم ، وعلى التقديرين ، فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يمكنوا الجن من معرفتها .
وخامسها : أن الشياطين مخلوقون من النار ، والنار لا تحرق النار ، بل تقويها .
وسادسها : إن كان هذا القذف لأجل النبوة فلم بقي بعدها ؟ .
وسابعها : أن هذه الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض ، لأنا نشاهدها بالعين ، ومع البعد لا نشاهدها كما لا نشاهد حركات الكواكب .
وثامنها : إن كانت الشياطين ينقلون أخبار الملائكةِ عن المغيبات إلى الكهنة ، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار ، حتى يتوصل الكفار بذلك إلى إلحاق الضرر بالمؤمنين ؟ .
وتاسعها : لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء ؟ .
والجواب عن الأول : أنا لا ننكر أن هذه الشُّهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن الثاني : أنه إذا جاء القدر عمي البصر ، فإذا قضى الله على طائفة منها بالحرق لطغيانها ، قيَّض الله لها من الدواعي ما يقدمها على العملِ المفضي إلى هلاكها .
وعن الثالث : أن نمنع كون ثخن الفلك ما ذكروه ، بأن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام .
وعن الرابع : ما روى الزهري عن علي بن الحسين ، عن علي بن أبي طالب قال : «بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في نفرٍ من أصحابه ، إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : مَا كُنْتُمْ تقُولُونَ فِي الجَاهليَّةِ إذَا حدث ؟ قال : كنا نقول : يولد عظيم أو يموت عظيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإنَّها لا تُرْمَى لمَوْتِ أحدٍ ، ولا لِحياتهِ ، ولكِنَّ اللَّه - تعالى - إذا قَضَى الأمْرَ في السَّماءِ سبَّحتْ حملةُ العرشِ ، ثُمَّ يُسبِّحُ أهلُ كُلِّ سماءٍ ، وتسبِّحُ كُل سماءٍ ، حتى ينتهي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ ، ويَسْتخبرُ أهلُ السَّماءِ حملة العَرْشِ ماذا قال ربُّكُمْ ؟ فيُخبرُونهُمْ ، ولا يَزالُ يَنْتَهِي ذلِكَ الخَبَرُ من سماءٍ إلى سماءٍ إلى أن يَنْتَهِي الخبرُ إلى هذه السَّماء فتَخْطَفُهُ الجِنُّ فَيُرمَونَ ، فمَا جَاءُوا به فَهُوَ حَقٌّ ، ولكنَّهم يزيدُون فِيهِ " {[57367]} .
وعن الخامس : أنَّ نار النجومِ{[57368]} قد تكون أقوى من نارِ الجن .
وعن السادس : أنه - عليه الصلاة والسلام - أخبر ببطلان الكهانةِ ، فلو لم ينقطعوا لعادت الكهانة ، وذلك يقدح في خبر الرسولِ عليه الصلاة والسلام .
وعن السابع : أن البعد غير مانع من السماءِ عندنا .
وعن الثامن : لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة ، وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين .
وعن التاسع : أن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } . لما ذكر منافع الكواكب ، وذكر من جملة تلك المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } ، أي : وأعتدنا للشَّياطين بعد الإحراق بالشُّهب في الدنيا عذاب السَّعير في الآخرة ، وهو أشدُّ الحريقِ .
قال المبردُ : سعرت النَّار فهي مسعورة وسعير ، مثل قوله : مقتولة وقتيل .
وهذه الآية تدل على أن النَّار مخلوقة ؛ لأن قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } خبر عن الماضي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.