مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ} (5)

قوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير } اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه تعالى قادرا عالما ، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص ، وموضع معين ، وسير معين ، تدل على أن صانعها قادر ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا ، وسببا لانتفاعهم بها ، تدل على أن صانعها عالم ، ونظير هذه الآية في سورة الصفات { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد } وهاهنا مسائل .

المسألة الأولى : السماء الدنيا السماء القربى ، وذلك لأنها أقرب السماوات إلى الناس ومعناها السماء الدنيا من الناس ، والمصابيح السرج سميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح ، فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بمصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة ، أما قوله تعالى : { وجعلناها رجوما للشياطين } فاعلم أن الرجوم جمع رجم ، وهو مصدر سمي به ما يرجم به ، وذكروا في معرض هذه الآية وجهين : ( الوجه الأول ) أن الشياطين إذا أرادوا استراق السمع رجموا بها ، فإن قيل : جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها واستمرارها وجعلها رجوما للشياطين ورميهم بها يقتضي زوالها والجمع بينهما متناقض ، قلنا : ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب ، بل يجوز أن ينفصل من الكواكب شعل ترمى الشياطين بها ، وتلك الشعل هي الشهب ، وما ذاك إلا قبس يؤخذ من نار والنار باقية الوجه الثاني : في تفسير كون الكواكب رجوما للشياطين أنا جعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من المنجمين .

المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا ، وذلك لأن السماوات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سماوات أخرى فوقها ، فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها ، فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح .

واعلم أن أصحاب الهيئة اتفقوا على أن هذه الثوابت مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرات السيارات ، واحتجوا عليه بأن بعض هذه الثوابت في الفلك الثامن ، فيجب أن تكون كلها هناك ، وإنما قلنا : إن بعضها في الفلك الثامن ، وذلك لأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات ، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة ، وإنما قلنا : إن هذه الثوابت لما كانت في الفلك الثامن وجب أن تكون كلها هناك ، لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة ، فلا بد وأن تكون مركوزة في كرة واحدة .

واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف ، فإنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هناك ، لأنه لا يبعد وجود كرة تحت القمر ، وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت ، وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارن القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية ، إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة ، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون هذه المصابيح مركوزة في السماء الدنيا ، فثبت أن مذهب الفلاسفة في هذا الباب ضعيف .

المسألة الثالثة : اعلم أن منافع النجوم كثيرة ، منها أن الله تعالى زين السماء بها ، ومنها أنه يحصل بسببها في الليل قدر من الضوء ، ولذلك فإنه إذا تكاثف السحاب في الليل عظمت الظلمة ، وذلك بسبب أن السحاب يحجب أنوارها ، ومنها أنه يحصل بسببها تفاوت في أحوال الفصول الأربعة ، فإنها أجسام عظيمة نورانية ، فإذا قارنت الشمس كوكبا مسخنا في الصيف ، صار الصيف أقوى حرا ، وهو مثل نار تضم إلى نار أخرى ، فإنه لا شك أن يكون الأثر الحاصل من المجموع أقوى ، ومنها أنه تعالى جعلها علامات يهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، على ما قال تعالى : { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } ومنها أنه تعالى جعلها رجوما للشياطين الذين يخرجون الناس من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر ، يروى أن السبب في ذلك أن الجن كانت تتسمع لخبر السماء ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ، ورصدت الشياطين ، فمن جاء منهم مسترقا للسمع رمي بشهاب فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض فيلقيه إلى الناس فيخلط على النبي أمره ويرتاب الناس بخبره ، فهذا هو السبب في انقضاض الشهب ، وهو المراد من قوله : { وجعلناها رجوما للشياطين } ومن الناس من طعن في هذا من وجوه ( أحدها ) : أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة ، قالوا : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس ، وإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها ، فتلك الشعلة هي الشهاب ( وثانيها ) : أن هؤلاء الجن كيف يجوز أن يشاهدوا واحدا وألفا من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم فإن العاقل إذا رأى الهلاك في شيء مرة ومرارا وألفا امتنع أن يعود إليه من غير فائدة ( وثالثها ) : أنه يقال في ثخن السماء فإنه مسيرة خمسمائة عام ، فهؤلاء الجن إن نفذوا في جرم السماء وخرقوا اتصاله ، فهذا باطل لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور على ما قال : { فارجع البصر هل ترى من فطور } وإن كانوا لا ينفذون في جرم السماء ، فكيف يمكنهم أن يسمعوا أسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ، ثم إن جاز أن يسمعوا كلامهم من ذلك البعد العظيم ، فلا يسمعوا كلام الملائكة حال كونهم في الأرض ( ورابعها ) : أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة ، إما لأنهم طالعوها في اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها من وحي الله تعالى إليهم ، وعلى التقديرين فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يتمكن الجن من الوقوف عليها ( وخامسها ) : أن الشياطين مخلوقون من النار ، والنار لا تحرق النار بل تقويها ، فكيف يعقل أن يقال : إن الشياطين زجروا عن استراق السمع بهذه الشهب ( وسادسها ) : أنه كان هذا الحذف لأجل النبوة فلم دام بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ( وسابعها ) : أن هذه الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض ، بدليل أنا نشاهد حركتها بالعين ولو كانت قريبة من الفلك ، لما شاهدنا حركتها كما لم نشاهد حركات الكواكب ، وإذا ثبت أن هذه الشهب إنما تحدث بالقرب من الأرض ، فكيف يقال : إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك ( وثامنها ) : أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة من المغيبات إلى الكهنة ، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار ، حتى يتوصل الكفار بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضرر بهم ؟ ( وتاسعها ) : لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء حتى لا يحتاج في دفعهم عن السماء إلى هذه الشهب ؟ .

والجواب عن السؤال الأول : أنا لا ننكر أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لأسباب أخر ، إلا أن ذلك لا ينافي أنها بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام قد توجد بسبب آخر وهو دفع الجن وزجرهم . يروى أنه قيل للزهري : أكان يرمى في الجاهلية قال : نعم ، قيل : أفرأيت قوله تعالى : { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم .

والجواب عن السؤال الثاني : أنه إذا جاء القدر عمي البصر ، فإذا قضى الله على طائفة منها الحرق لطغيانها وضلالتها ، قيض لها من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها ، تقدم على العمل المفضي إلى الهلاك والبوار .

والجواب عن السؤال الثالث : أن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام ، فأما ثخن الفلك فلعله لا يكون عظيما .

وأما الجواب عن السؤال الرابع : ما روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن ابن عباس قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : " ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا ، " قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم » قال عليه الصلاة والسلام : " فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء ، وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ، ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ولا يزال ذلك الخبر من سماء إلى سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، ويتخطف الجن فيرمون ، فما جاءوا به فهو حق ، ولكنهم يزيدون فيه " .

والجواب عن السؤال الخامس : أن النار قد تكون أقوى من نار أخرى ، فالأقوى يبطل الأضعف .

والجواب عن السؤال السادس : أنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة ، فلو لم يدم هذا العذاب لعادت الكهانة ، وذلك يقدح في خبر الرسول عن بطلان الكهانة .

والجواب عن السؤال السابع : أن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع ، فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك الموضع سمعوا كلام الملائكة .

والجواب عن السؤال الثامن : لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين .

والجواب عن السؤال التاسع : أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فهذا ما يتعلق بهذا الباب على سبيل الاختصار والله أعلم .

واعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الكواكب وذكر أن من جملة المنافع أنها رجوم للشياطين ، قال بعد ذلك : { وأعتدنا لهم عذاب السعير } أي أعتدنا للشياطين بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عذاب السعير في الآخرة ، قال المبرد : سعرت النار فهي مسعورة وسعير كقولك : مقبولة وقبيل ، واحتج أصحابنا على أن النار مخلوقة الآن بهذه الآية ، لأن قوله : { وأعتدنا } إخبار عن الماضي .