فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ} (5)

ولما فرغ سبحانه من تفاصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائها على قوانين الحكم والمصالح ، وشرع في ذكر دلائل أخرى على تمام قدرته بعد تلك الدلائل ، فقال : { ولقد زينا السماء الدنيا } ( {[1604]} ) أي القربى إلى الأرض من بقية السموات وهي التي يراها الناس .

{ بمصابيح } أي بنجوم فصارت بهذه الزينة في أحسن خلق ، وأكمل صورة وأبهج شكل ، والمجيء بالقسم لإبراز كمال العناية ، والمصابيح جمع مصباح ، وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضيء كإضاءة السراج ، ففي الكلام استعارة تصريحية ، لأن حقيقة المصباح كما في المختار السراج ، وبعض الكواكب وإن كان في غير الدنيا من السموات التي فوقها ، تتراءى كأنها كلها في السماء الدنيا ، لأن أجرام السموات لا تمنع من رؤية ما فوقها مما له إضاءة ، لكونها أجراما صقيلة شفافة .

{ وجعلناها رجوما للشياطين } هذه فائدة أخرى غير الفائدة الأولى ، وهي كونها زينة للسماء الدنيا ، والمعنى أنها ترجم الشياطين الذين يسترقون السمع . والرجوم جمع رجم بالفتح ، وهو في الأصل مصدر أطلق على المرجوم به ، كما في قولهم : الدرهم ضرب الأمير أي مضرابه ، والمعنى ذات رجم ، وجمع المصدر باعتبار أنواعه ، وقيل إن الضمير في جعلناها إلى المصابيح على حذف مضاف أي جعلنا شهبها وهي نارها المقتبسة منها لا هي نفسها لقوله .

{ إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب } ووجه هذا أن المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها ، بل ينفصل شهاب عن الكوكب فيقتل الجني أو يخبله . كذا قال أبو علي الفارسي : جوابا لمن سأله كيف تكون المصابيح زينة وهي رجوم ، قال القشيري : وأمثل من قوله هذا أن نقول : هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين .

قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها في البر والبحر ، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم وتعدى وظلم . وقيل : معنى الآية وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون ، قال أبو السعود : ولا يساعده المقام .

{ وأعتدنا لهم } أي للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب { عذاب السعير } هو النار الموقدة وأشد الحريق ، يقال : سعرت النار فهي مسعورة .


[1604]:قال المقيلي في حاشية الكشاف إن قوله {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} يكذب المنجمين والزاعمين علم الفلك في قولهم إن بعض النجوم في السموات كقولهم أن زحل في السابعة والمشتري في السادسة والمريخ في الخامسة والشمس في الرابعة والزهرة في الثالثة والعطارد في الثانية والقمر في الدنيا وهذا من واضحات علمهم بزعمهم فغيره أكذب منه وكان البيضاوي يتعاطى هذه الحرفة البائرة لأنه قال هنا لا ينافي ذلك كون بعض النجوم مركوزا في سموات فوق هذه وتقدم له في البقرة أنه إذا ضم العرش إلى السبع السموات وافق كلام الأوائل أن الأفلاك ثمانية وتمام البحث حققناه في هداية السائل إلى أدلة المسائل أ هـ منه.