التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (163)

غُيّر أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هُنا : فابتدىءَ ذِكرُ هذه القصة بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها ، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأناً غير شأن القصص الماضية ، ولا أحسب ذلك إلاّ من أجل أن هذه القصة ليست مما كُتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم ، ولكنها مما كان مروياً عن أحبارهم ، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها ، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أْطلع نبيّه عليه الصلاة والسلام عليها ، وهم كانوا يكتمونها ، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عَقب الموعظة أثراً قد تعيّر الأمة به ، ولكن ذلك التعيير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعطة ، فالأمة في خُوَيْصّتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلاّ بإصلاح الحال ، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض ، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولتْ الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها ، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزاً عليها ومعرّة تُعير بها ، وكذلك كان شَأن اليهود لما أضاعوا مُلكهم ووطنهم وجاوروا أمماً أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مَسَاوي تاريخهم ، حتى أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم فعلّمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم ، وما بقي معرّة لأخلافهم ، وذلك تَحدّ لهم ، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد .

فالسؤال هنا في معنى التقرير لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وَعد سوابق عصيانهم أي ليس عصيانهم إياك ببدع ، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم ، وليس سؤالَ الاستفادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلم بذلك من جانب ربه تعالى ، وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان { وأسألهم عن القرية } وزان : أعدَوْتُم في السَبْت ، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائِل عما لا يعلمه ليعلمه ، والآخران يسأل على وجه التقرير حين يكون السائِل يعلم حصول المسؤول عنه ، ويعلم المسؤول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره .

وجملة : { واسألهم } عطف على جملة : { وإذْ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } [ الأعراف : 161 ] واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله : { وقَطّعنْاهم } [ الأعراف : 168 ] ، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة إن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل .

وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالى : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } الآية من سورة البقرة ( 65 ) .

وهذه القرية قيل : ( أْيلة ) وهي المسماة اليوم ( العقبة ) وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طور سينا ، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر ، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود عليه السلام ، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرببِ منه ، لأن الحضور يستلزم القرب ، وكانت ( أيلة ) متصلة بخليج من البحر الأحمر وهو القلزم .

وقيل هي ( طبرية ) وكانت طبرية تدعى بحيرة طبرية ، وقد قال المفسرون : إن هذه القصة التي أشير إليها في هذه الآية كانت في مدة داود .

وأطلقت القرية على أهلها بقرينة قوله : { إذ يعْدُون } أي أهلها .

والمراد السؤال عن اعتدائهم في السبت بقرينة قوله : { إذ يعدون في السبت } الخ فقوله : { إذ يعدون في السبت } بدل اشتمال من القرية وهو المقصود بالحكم . فتقدير الكلام : وأسألهم إذ يعدُو أهل القرية في السبت و { إذْ } فيه اسم زمان للماضي ، وليست ظرفاً .

والعدوان الظلم ومخالفة الحق ، وهو مشتق من العدوْ وبسكون الدال وهو التجاوز .

والسبت علم لليوم الواقع بعد يوم الجمعة ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقُلنا لهم لا تَعدُوا في السبت } في سورة النساء ( 154 ) .

واختيار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم .

وتعدية فعل { يعدون } إلى { في السبت } مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت ، نظراً إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت ، ونظراً إلى أن ذكر وقت العدوان لا يتعلق به غرض البليغ ما لم يكن لذلك الوقت مزيد اختصاص بالفعل فيعلم أن الاعتداء كان مَنوطاً بحق خاص بيوم السبت ، وذلك هو حق عدم العمل فيه ، إذ ليس ليوم السبت حق في شريعة موسى سوى أنه يحرم العمل فيه ، وهذا العمل هو الصيد كما تدل عليه بقية القصة .

وهدف { في } للظرفية ، لأن العدوان وقع في شأن نقص حرمة السبت .

وقوله : { إذ تأتيهم حيتانهم } ظرف ل { يعْدُون } أي يَعْدون حين تأتيهم حيتانهم .

والحيتان جمع حوت ، وهو السمكة ، ويطلق الحوت على الجمع فهو مما استوى فيه المفرد والجمع مثل فُلْك ، وأكثر ما يطلق الحوت على الواحد ، والجمعُ حيتان .

وقوله : { شُرّعاً } هو جمع شارع ، صفة للحوت الذي هو المفرد ، قال ابن عباس : أي ظاهرة على الماء ، يعني أنها قريبة من سطح البحر آمنة من أن تصاد ، أي أن الله ألهمها ذلك لتكون آية لبني إسرائيل على أن احترام السبت من العمل فيه هو من أمر الله ، وقال الضحاك : { شُرَعاً } متتابعة مصطفة ، أي فهو كناية عن كثرة ما يَرد منها يومَ السبت .

وأحسب أن ذلك وصف من شَرَعَتْ الإبل نحو الماء أي دخلتْ لتشرب ، وهي إذا رعها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكمت وربما دخلت فيه ، فمثلت هيئة الحيتان ، في كثرتها في الماء بالنعم الشارعة إلى الماء وحسّن ذلك وجود الماء في الحالتين ، وهذا أحسن تفسيراً .

والمعنى : أنهم يَعْدون في السبت ولم يمتثلوا أمر الله بترك العمل فيه ، ولا اتعظوا بآية إلهام الحوت أن يكون آمناً فيه .

وقوله : { يوم سبتهم } يجوز أن يكون لفظ سبت مصدَر سبتَ إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله : { ويوم لا يسبتون } فإنه مضارع سَبت ، فيتطابق المثبت والمنفي فيكون المعنى : إنهم إذا حفظوا حرمة السبت ، فأمسكوا عن الصيد في يوم السبت ، جاءت الحيتان يومئذٍ شُرعاً آمنة ، وإذا بعثهم الطمع في ورفة الصيد فأعدُّوا له آلاته ، وعزموا على الصيد لم تأتهم .

ويجوز أن يكون لفظ { سبتهم } بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف بهذا الاسم من أيام الأسبوع ، وإضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بما أنهم يهود ، تعريضاً بهم لاستحلالهم حرمة السبت فإن الاسم العلم قد يضاف بهذا القصد ، كقول أحد الطائينَ :

عَلاَ زيدْنا يوم النّقا رأسَ زيدِكم *** بأبيض ماضي الشفرتين يَمانِ

وقول ربيعة بن ثابت الأسدي :

لشتان ما بين اليزيدين في النّدى *** يَزيدِ سُليْم والأغَرّ ابننِ حاتم

وعلى الوجهين يجوز في قوله : { ويوم لا يسبتون } أن يكون المعنى والأيامَ التي لا يحرم العمل فيها ، أي أيام الأسبوع ، لا تأتي فيها الحيتان ، وأن يكون المعنى وأيامَ السبوت التي استحلوها فلم يكفوا عن الصيد فيها يَنقطع فيها إتيان الحيتان ، ولا يخفى أن لا يثار هذا الأسلوب في التعبير عن السبت خصوصية بلاغية ، ترمي إلى إرادة كلا المعنيين .

فالمقصود من الآية الموعظة والعبرة وليست منة عليهم ، وقرينته قوله تعالى : { كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } أي نمتحن طاعتهم بتعريضهم لداعي العصيان وهو وجود المشتهى الممنوع .

وجملة { كذلك نبلوهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال من يقول : ما فائدة هذه الآية مع علم الله بأنهم لا يَرعوون عن انتهاك حرمة السبت .

والإشارة إلى البلوى الدال عليها { نبلوهم } أي مثل هذا الابتلاء العظيم نبلوهم ، وقد تقدم القول في نظيره من قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .

وأصل البلوى الاختبار ، والبلوى إذا أسندت إلى الله تعالى كانت مجازاً عقلياً أي ليبلَو الناس تمسكهم بشرائِع دينهم .

والباء للسببية و ( ما ) مصدرية ، أي بفسقهم ، أي توغلهم في العصيان أضراهم على الزيادة منه ، فإذا عرض لهم داعِيهِ خفُّوا إليه ولم يرقبوا أمر الله تعالى .