الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (163)

قوله تعالى : { عَنِ الْقَرْيَةِ } : لا بد من مضافٍ محذوفٍ ، أي : عن خبر القرية ، وهذا المضافُ هو الناصبُ لهذا الظرف وهو قوله : " إذ يعدون " وقيل : بل هو منصوبٌ ب " حاضرة " . قال أبو البقاء : " وجوَّز ذلك أنها كانت موجودةً ذلك الوقتَ ثم خَرِبَتْ " . وقدَّر الزمخشري المضاف " أهل " ، أي : عن أهل القرية ، وجعل الظرفَ بدلاً من " أهل " المحذوف فإنه قال : " إذ يَعْدون " بدل من القرية ، والمرادُ بالقرية أهلُها ، كأنه قيل : وسَلْهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت ، وهو مِنْ بدل الاشتمال .

قال الشيخ : " وهذا لا يجوزُ ، لأنَّ " إذ " من الظروف التي لا تتصرَّف ، ولا يَدْخل عليها حرفُ جر ، وجَعْلُها بدلاً يُجَوِّز دخول " عن " عليها لأنَّ البدلَ هو على نية تكرار العامل ، ولو أَدْخَلْت " عن " عليها لم يَجُزْ ، وإنما يُتَصَرَّفُ فيها بأنْ تُضِيْفَ إليها بعضَ الظروفِ الزمانية نحو " يوم إذ كان كذا " ، وأمَّا قولُ مَنْ ذهب إلى أنها تكونُ مفعولةً ب " اذكر " : فقولُ مَنْ عَجَز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً " .

وقال الحوفي : " إذ متعلقةٌ ب " سَلْهم " . قال الشيخ : " وهذا لا يُتَصور ، لأن " إذ " لِما مضى ، و " سَلْهم " مستقبلٌ ، ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى ، لأنَّ العادِين وهم أهل القرية مفقودون ، فلا يمكن سؤالُهم فالمسؤول غير أهل القرية العادين " .

وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك : " يَعَدُّون " بفتح العين وتشديد الدال ، وهذه تشبه قراءةَ نافع في قوله " لا تَعَدُّوا في السبت " والأصل " تَعْتَدُّوا " فأدغم التاءَ في الدال لمقاربتها لها . وقُرئ " تُعِدُّون " بضمِ التاء وكسرِ العين وتشديد الدال من أعدَّ يُعِدُّ إعداداً : إذا هَيَّأ آلاتِه . وفي التفسير : أنهم كانوا مأمورين في السبت فيتركونها ويُهَيِّئون آلاتِ الصيد .

قوله : { إِذْ تَأْتِيهِمْ } العاملُ فيه " يَعْدُون " ، أي : إذ عَدَوا إذ أَتَتْهم ، لأنَّ الظرفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيّ . وقال الزمخشري : " وإذ تأتيهم بدلٌ من إذْ يَعْدُون بدلاً بعد بدل " يعني أنه بدلٌ ثانٍ من القرية على ما تقرَّر عنه . وقد تقدَّم ردُّ الشيخ عليه هناك وهو عائدٌ هنا .

و " حِيْتان " جمع حُوت ، وإنما أُبدلت الواو ياء لسكونها وانكسارِ ما قبلَها . ومثلُه : نون ونينان . والنونُ : الحوت .

قوله : { شُرَّعاً } حالٌ من " حِيتانهم " وشُرَّعٌ جمعُ شارع . وقرأ عمر ابن عبد العزيز " يوم إسْباتهم " وهو مصدرٌ " أسبت " إذا دخل في السَّبْت .

وقرأ عاصم بخلافٍ عنه وعيسى بن عمر : لا يَسْبُتون بضم الباء . وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف عنه " يُسْبِتون " بضم الياء وكسرِ الباء مِنْ أَسْبت ، أي : دَخَل في السبت . وقرئ : " يُسْبَتُون " بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول ، نقلها الزمخشري عن الحسن قال : " أي : لا يُدار عليهم السَّبْت ولا يُؤْمرون بأن يَسْبِتُوا " .

والعاملُ في " يوم لا يَسْبتون " قوله " لا تَأْتيهم " أي : لا تأتيهم يوم لا يَسْبتون ، وهذا يدلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب " لا " عليها . وقد قدَّمْتُ فيه ثلاثةَ مذاهب : الجوازَ مطلقاً كهذه الآية ، المنعَ مطلقاً ، التفصيلَ : بين أن يكون جوابَ قسم فيمتنعَ أو لا فيجوز .

قوله : { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم } ذكر الزجاج وابن الأنباري في هذه الكاف ومجرورِها وجهين ، أحدهما : قال الزجاج : " أي : مثلَ هذا الاختبار الشديد نختبرهم ، فموضعُ الكاف نصب ب " نَبْلوهم " . قال ابن الأنباري : " ذلك " إشارةٌ إلى ما بعدَه ، يريد : نَبْلوهم بما كانوا يفسُقون كذلك البلاءَ الذي وقع بهم في أَمْرِ الحِيتان ، وينقطع الكلام عند قوله " لا تأتيهم " .

الوجه الثاني : قال الزجاج : " ويحتمل أن يكون على بُعْدٍ أن يكونَ : ويومَ لا يَسْبِتُون لا تأتيهم كذلك ، أي : لا تأتيهم شُرَّعاً ، ويكون نَبْلوهم مستأنفاً " . قال أبو بكر : " وعلى هذا الوجهِ : " كذلك " راجعةٌ إلى الشُّروع في قوله تعالى : { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } والتقدير : ويوم لا يَسْبِتون لا تأتيهم كذلك الإِتيانَ بالشروع ، وموضعُ الكاف على هذا نصبٌ بالإِتيان على الحال ، أي : لا تأتي مثلَ ذلك الإِتيان " . /

وقوله : { بِمَا كَانُوا } الباء سببيةٌ ، و " ما " مصدريةٌ أي : نَبْلُوهم بسببِ فِسْقِهم ، ويَضْعُفُ أن تكونَ بمعنى الذي لتكلُّفِ حَذْفِ العائد على التدريج . وقد ذكر مكي هنا مسألةً مختلفاً فيها بين النحاة لا تعلُّق لها بهذا الموضع فقال : " وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول : اليومَ السبتُ ، واليومَ الجمعة ، فَتُنْصَبَ " اليوم " على الظرف وتُرْفَعَ مع سائر الأيام فتقول : اليومَ الأحد ، واليومَ الأربعاء ، لأنه لا معنى للفعل فيهما ، فالمبتدأ هو الخبر فترفع " . قلت : هذه المسألة فيها خلافٌ بين النحويين ، فالجمهور كما ذكر يوجبون الرفعَ لأنه بمنزلة قولك : اليومُ الأولُ ، اليوم الثاني . وأجاز الفراء وهشام النصب قالا : " لأن اليوم بمنزلة الآن ، فالآن أعم من الأحد والثلاثاء ، فكأنه قيل : الآن الأحد ، الآن الاثنان " ، أي : إنهما واقعان في الآن ، وليست هذه المسألةُ مختصةً بالجمعة والسبت ، بل الضابطُ فيها أنه إذا ذُكر " اليوم " مع ما يتضمن عملاً وحدثاً جاز النصب والرفع نحو قولهم : اليوم العيد ، اليوم الفطر ، اليوم الأضحى ، كأنك قلت : اليوم يَحْدُث اجتماع وفطر وأُضْحية .