البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (163)

{ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } .

الضمير في و { اسألهم } عائد على من يحضره الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود وذكر أن بعض اليهود المعارضين للرسول صلى الله عليه وسلم قالوا له لم يكن من بني إسرائيل عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبّخة لهم ومقررة كذبهم ومعلمة ما جرى على أسلافهم من الإهلاك والمسخ وكانت اليهود تكتم هذه القصة فهي مما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي فإذا أعلمهم بها من لم يقرأ كتابهم علم أنه من جهة الوحي ، وقوله { عن القرية } فيه حذف أي عن أهل لقرية و { القرية } إيلة قاله ابن مسعود وأبو صالح عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة والسدّي وعكرمة وعبد الله بن كثير والثوري ، أو مدين ورواه عكرمة عن ابن عباس أو ساحل مدين ، وروي عن قتادة وقال هي مقّنى بالقاف ساكنة ، وقال ابن زيد : هي مقناة ساحل مدين ، ويقال : لها معنى بالعين مفتوحة ونون مشدّدة أو طبرية قاله الزهري أو أريحا أو بيت المقدس وهو بعيد لقوله { حاضرة البحر } أو قرية بالشام لم تسمَّ بعينها وروي عن الحسن : ومعنى انتهى حاضرة البحر بقرب البحر مبنية بشاطئه ويحتمل أن يريد معنى الحاضرة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر فالتقدير { حاضرة } قرى { البحر } أي يحضر أهل قرى البحر إليها لبيعهم وشرائهم وحاجتهم { إذ يعدون في السبت } أي يجاوزون أمر الله في العمل يوم السبت وقد تقدم منه تعالى النهي عن العمل فيه والاشتغال بصيد أو غيره إلا أنه في هذه النازلة كان عصيانهم ، وقرىء { يعدّون } من الإعداد وكانوا يعدّون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك { يعَدّون } بفتح العين وتشديد الدال وأصله يعتدون فأدغمت التاء في الدال كقراءة من قرأ

{ لا تعدوا في السبت } { إذ } ظرف والعالم فيه .

قال الحوفي : { إذ } متعلقة بسلهم انتهى ، ولا يتصور لأن { إذ } ظرف لما مضى وسلهم مستقبل ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يصحّ المعنى لأن العادين وهم أهل القرية مفقودون فلا يمكن سؤالهم والمسؤول عن أهل القرية العادين .

وقال الزمخشري : { إذ يعدون } بدل { من القرية } والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل وسلهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال انتهى ، وهذا لا يجوز لأن { إذ } من الظروف التي لا تتصرف ولا يدخل عليها حرف جر وجعلها بدلاً يجوز دخول عن عليها لأن البدل هو على نيّة تكرار العامل ولو أدخلت عن عليها لم يجز وإنما تصرف فيها بأن أضيف إليها بعض الظروف الزمانية نحو يوم إذ كان كذا وأما قول من ذهب إلى أنها يتصرّف فيها بأن تكون مفعولة باذكر فهو قول من عجز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً ، وقال أبو البقاء { عن القرية } : أي عن خبر القرية وهذا المحذوف هو الناصب للظرف الذي هو { إذ يعدون } ، وقيل هو ظرف للحاضرة وجوّز ذلك أنها كانت موجودة في ذلك الوقت ثم خربت انتهى ، والظاهر أن قوله { في السبت } و { يوم سبتهم } المراد به اليوم ومعنى { اعتدوا فيه } أي بعصيانهم وخلافهم كما قدمنا ، وقال الزمخشري : السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبّد فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله تعالى يوم سبتهم يوم تعظيمهم ويدل عليه قوله { ويوم لا يسبتون } { وإذ تأتيهم } العامل في { إذ يعدون } أي إذ عدوا في السبت إذ أتتهم لأنّ إذ ظرف لما مضى يصرف المضارع للمضي .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل انتهى ، يعني بدلاً من { القرية } بعد بدل { إذ يعدون } وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز وأضاف { السبت } إليهم لأنهم مخصوصون بأحكام فيه .

وقرأ عمر بن عبد العزيز : { حيتانهم } يوم أسباتهم ، قال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح وقد ذكر هذه القراءة عن عمر بن عبد العزيز : وهو مصدر من أسبت الرجل إذا دخل في السبت ، وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف { لا يسبتون } بضمّ كسرة الباء في قراءة الجمهور ، وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف { يسبتون } بضم ياء المضارعة من أسبت دخل في السبت ، قال الزمخشري : وعن الحسن { لا يسبتون } بضم الياء على البناء للمفعول أي لا يدار عليهم السبت ولا يؤمرون بأن يسبتوا والعامل في { يوم } قوله { لا تأتيهم } وفيه دليل على أنّ ما بعد لا للنفي يعمل فيما قبلها وفيه ثلاثة مذاهب الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً والتفصيل بين أن يكون لا جواب قسم فيمتنع أو غير ذلك فيجوز وهو الصحيح كذلك أي مثل ذلك البلاء بأمر الحوت نبلوهم أي بلوناهم وامتحناهم ، وقيل كذلك متعلق بما قبله أي { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك } أي لا { تأتيهم } إتياناً مثل ذلك الإتيان وهو أن تأتي شرّعاً ظاهرة كثيرة بل يأتي ما أتى منها وهو قليل فعلى القول الأول في كذلك ينتفي إتيان الحوت مطلقاً ، كما روي في القصص أنه كان يغيب بجملته وعلى القول الثاني كان يغيب أكثره ولا يبقى منه إلاّ القليل الذي يتعب بصيده قاله قتادة : وهذا الإتيان من الحوت قد يكون بإرسال من الله كإرسال السُّحاب أو بوحي إلهام كما أوحى إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم على نحو ما يشعرالله الدّواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما جاء وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس فرقاً من الساعة ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعوراً بالسلامة ومعنى { شرّعاً } مقبلة إليهم مصطفّة ، كما تقول أشرعت الرّمح نحوه أي أقبلت به إليه ، وقال الزمخشري : { شرّعاً } ظاهرة على وجه الماء ، وعن الحسن : تشرّع على أبوابهم كأنها الكباش السّمن يقال : شرع علينا فلان إذا دنا منه وأشرف علينا وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا ، وقال رواة القصص : يقرب حتى يمكن أخذه باليد فساءهم ذلك وتطرّقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود فإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجراً فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوه فكان هذا أول التطريق ، وقال ابن رومان : كانوا يأخذ الرجل منهم خيطاً ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت وفي الطرف الآخر من الخيط وتدٌ مضروب وتركه كذلك إلى أن يأخذه في الأحد ثم تطرق الناس حين رأوا من يصنع هذا لا يبتلي حتى كثر صيد الحوت ومشى به في الأسواق وأعلن الفسقة بصيده وقالوا ذهبت حرمة السبت .

عمر وزيد بن علي ، وقرأ جرية بن عائد ونصر بن عاصم في رواية بأس على وزن ضرب فعلاً ماضياً وعن الأعمش ومالك بن دينار بأس أصله بأس فسكن الهمزة جعله فعلاً لا يتصرف ، وقرأت فرقة بيس بفتح الباء والياء والسّين وحكى الزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة بئس بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً ولم يبيّن هل الهمزة مكسورة أو ساكنة ، وقرأت فرقة باس بفتح الباء وسكون الألف .

وقرأ خارجة عن نافع وطلحة بيس على وزن كيل لفظاً وكان أصله فيعل مهموزاً إلا أنه خفّف الهمزة بإبدالها ياء وادغم ثم حذف كميت ، وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه بأس على وزن جبل وأبو عبد الرحمن بن مصرف بئس على وزن كبد وحذر ، وقال أبو عبد الله بن قيس الرقيات :

ليتني ألقى رقية في *** خلوة من غير ما بئس

وقرأ ابن عباس وأبو بكر عن عاصم والأعمش بيأس على وزن ضيغم وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي :

كلاهما كان رئيساً بيأسا *** يضرب في يوم الهياج القونسا

وقرأ عيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنه بيئس على وزن صيقل اسم امرأة بكسر الهمزة وبكسر القاف وهما شاذّان لأنه بناء مختصّ بالمعتل كسيد وميت ، وقرأ نصر بن عاصم في رواية بيس على وزن ميت وخرج على أنه من البؤس ولا أصل له في الهمز وخرج أيضاً على أنه خفّف الهمزة بإبدالها ياءً ثم أدغمت وعنه أيضاً بئس بقلب الياء همزة وإدغامها في الهمزة ورويت هذه عن الأعمش ، وقرأت فرقة بأس بفتح الثلاثة والهمزة مشدّدة ، وقرأ باقي السبعة ونافع وفي رواية أبي قرة وعاصم في رواية حفص وأبو عبد الرحمن ومجاهد والأعرج والأعمش في رواية وأهل الحجاز { بئيس } على وزن رئيس وخرج على أنه وصف على وزن فعيل للمبالغة من بائس على وزن فاعل وهي قراءة أبي رجاء عن علي أو على أنه مصدر وصف به كالنكير والقدير ، وقال أبو الإصبع العدواني :

حنقا عليّ ولا أرى *** لي منهما شراً بئيسا

وقرأ أهل مكّة كذلك إلا أنهم كسروا الباء وهي لغة تميم في فعيل حلقي العين يكسرون أوله وسواء كان اسماً أم صفة ، وقرأ الحسن والأعمش فيما زعم عصمة بئيس على وزن طريم وحزيم فهذه اثنتان وعشرون قراءة وضبطها بالتلخيص أنها قرئت ثلاثية اللفظ ورباعيته فالثلاثي اسما بئس وبيس وبيس وبأس وبأس وبيس وفعلا بيس وبئس وبئس وبأس وبأس وبئس والرباعية اسما بيأس وبيئس وبيئس وبيس وبييس وبييس وبئيس وبائس وفعلا باءس .

{ فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } .

أي استعصوا والعتوّ الاستعصاء والتأبيّ في الشيء وباقي الآية تقدم تفسيره في البقرة ، والظاهر أن العذاب والمسخ والهلاك إنما وقع بالمعتدين في السبت والأمة القائلة { لم تعظون قوماً } هم من فريق النّاهين الناجين وإنما سألوا إخوانهم عن علة وعظهم وهو لا يجدي فيهم شيئاً البتة أذ الله مهلكهم أو معذّبهم فيصير الوعظ إذ ذاك كالبعث كوعظ المساكين فإنهم يسخرون بمن يعظهم وكثير ما يؤدي إلى تنكيل الواعظ وعلى قول من زعم أن الأمة القائلة { لم تعظون } هم العصاة قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء أي تزعمون أن الله مهلكهم أو معذبهم تكون هذه الأمة من الهالكين الممسوخين والظاهر من قوله { فلما عتوا } أنهم أولاً أخذوا بالعذاب حين نسوا ما ذكروا به ثم لما عتوا مسخوا ، وقيل : { فلما عتوا } تكرير لقوله : { فلما نسوا } والعذاب البئيس هو المسخ .

{ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة مَن يسومهم سوء العذاب } .

لما ذكر تعالى قبح فعالهم واستعصاءهم أخبر تعالى أنه حكم عليهم بالذّل والصغار إلى يوم القيامة { تأذّن } أعلم من الأذان وهو الإعلام قاله الحسن وابن قتيبة واختاره الزجاج وأبو علي ، وقال عطاء : { تأذّن } حتم ، وقال قطرب : وعد ، وقال أبو عبيدة : أخبر وهو راجع لمعنى أعلم ، وقال مجاهد : أمر وعنه قال : وقيل أقسم وروي عن الزجاج ، قال الزمخشري { تأذن } عزم { ربك } وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله وأجري مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله { ليبعثن } والمعنى وإذا حتم ربك وكتب على نفسه ، وقال ابن عطية : بنية { تأذن } هي التي تقتضي التكسّب من أذن أي علم ومكن فإذا كان مسنداً إلى غير الله لحقّه معنى التكسب الذي يلحق المحدثين وإلى الله كان بمعنى علم صفة لا مكتسبة بل قائمة بالذات فالمعنى وإذا علم الله { ليبعثن } ويقتضي قوة الكلام أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم على الله لأبعثن كذا نحا إليه أبو علي الفارسي ، وقال الطبري وغيره تأذّن معناه أعلم وهو قلق من جهة التصريف إذ نسبه { تأذن } إلى الفاعل غير نسبة أعلم وبين ذلك فرق من التعدي وغيره انتهى وفيه بعض اختصار .