التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

{ إذ } ظرف متعلق بقوله : { فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين } [ الأنفال : 9 ] .

وجعل الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم تلطفاً به ، إذ كانت هذه الآية في تفصيل عمل الملائكة يوم بدر ، وما خاطبهم الله به فكان توجيه الخطاب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أحق من يعلم مثل هذا العلم ويحصل العلم للمسلمين تبعاً له ، وأن الذي يهم المسلمين من ذلك هو نصر الملائكة إياهم وقد حصل الإعلام بذلك من آية { إذ تستغيثون ربكم } [ الأنفال : 9 ] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من استغاث الله ، ولذلك عرف الله هنا باسم الرب وإضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ليوافق أسلوب { إذ تستغيثون ربكم } [ الأنفال : 9 ] ولما فيه من التنويه بقدر نبيه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه فعل ذلك لطفاً به ورفعاً لشأنه .

والوحي إلى الملائكة المرسلين : إما بطريق إلقاء هذا الأمر في نفوسهم بتكوين خاص ، وإما بإبلاغهم ذلك بواسطة .

و { أنّي معكم } قيل هو في تأويل مصدر وذلك المصدر مفعول يوحي ، أي يوحي إليهم ثبوتَ معيّتِه لهم ، فيكون المصدر ، منصوباً على المفعول به ليوحي ، بهذا التأويل وقيل على تقدير باء الجر .

وأنت على ذُكْر مما قدمناه قريباً في قوله تعالى : { أني ممدكم بألفٍ من الملائكة } [ الأنفال : 9 ] من تحقيق أن تكون ( أن ) المفتوحة الهمزةِ المشددة النوننِ مفيدة معنى ( أنْ ) التفسيرية ، إذا وقعت معمولة لما فيه معنى القول دون حروفه .

والمعية حقيقتها هنا مستحيلة فتحمل على اللائِقة بالله تعالى أعني المعية المجازية ، فقد يَكون معناها توجه عنايته إليهم وتيسير العمل لهم ، وقد تكرر إطلاق ( مع ) بمثل هذا في القرآن كقوله : { وهْو مَعكم أينما كنتم } [ الحديد : 4 ] .

وإيحاء الله إلى الملائكة بهذا مقصود منه تشريفهم وتشريف العمل الذي سيكلفون به ، لأن المعية تؤذن إجمالاً بوجود شيء يستدعي المصاحبة ، فكان قوله لهم : { أني معكم } مقدمة للتكليف بعمل شريف ولذلك يذكْر ما تتعلق به المعية لأنه سيعلم من بقية الكلام ، أي أني معكم في عملكم الذي أكفلكم به .

ومن هنا ظهر موقع فَاء الترتيب في قوله : { فثبتوا الذين آمنوا } من حيث ما دل عليه { أني معكم } من التهيئة لتلقي التكليف بعمل عظيم وإنما كان هذا العمل بهذه المثابة لأنه إبدال للحقائق الثابتة باقتلاعها ووضع أضدادها لأنه يجعل الجبن شجاعة ، والخوف إقداماً والهلع ثباتاً ، في جانب المؤمنين ، ويجعل العزة رعباً في قلوب المشركين ، ويقطع أعناقهم وأيديهم بدون سَبب من أسباب القطع المعتادة فكانت الأعمال التي عُهد للملائكة عملُها خوارقَ عادات .

والتثبيت هنا مجاز في إزالة الاضطراب النفساني مما ينشأ عن الخوف ومن عدم استقرار الرأي واطمئنانه .

وعُرف المثبتُون بالموصول لما تومىء إليه صلة { آمنوا } من كون إيمانهم هو الباعث على هذه العناية ، فتكون الملائكة بعناية المؤمنين لأجل وصف الإيمان .

وتثبيت المؤمنين إيقاع ظن في نفوسهم بأنهم منصورون ويسمى ذلك إلهاماً وتثبيتاً ، لأنه إرشاد إلى ما يطابق الواقع ، وإزالة للاضطراب الشيطاني ، وإنما يكون خيراً إذا كان جارياً على ما يحبه الله تعالى بحيث لا يكون خاطراً كاذباً ، وإلاّ صار غروراً ، فتشجيع الخائف حيث يريد الله منه الشجاعة خاطر ملكي وتشجيعه حيث ينبغي أن يتوقى ويخاف خاطر شيطاني ووسوسة ، لأنه تضليل عن الواقع وتخذيل .

ولم يسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الملائكة بل أسنده الله إلى نفسه وحده بقوله : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعْب } لأن أولئك الملائكة المخاطبين كانوا ملائكة نصر وتأييد فلا يليق بقواهم إلقاء الرعب ، لأن الرعب خاطر شيطاني ذميم ، فجعله الله في قلوب الذين كفروا بواسطة أخرى غير الملائكة .

وأسند إلقاء الرعْب في قلوب الذين كفروا إلى الله على طريقةٌ الإجمال دون بيان لكيفية إلقائه ، وكل ما يقع في العالم هو من تقدير الله على حسب إرادته ، وأشار ذلك إلى أنه رعب شديد قدره الله على كيفية خارقة للعادة ، فإن خوارق العادات قد تصدر من القُوى الشيطانية بإذن الله وهو ما يسمى في اصطلاح المتكلمين بالإهانة وبالاستدراج ، ولا حاجة إلى قصد تحقير الشيطان بإلقاء الرعب في قلوب المشركين كما قصد تشريف الملائكة ، لأن إلقاء الرعب في قلوب المشركين يعود بالفائدة على المسلمين ، فهو مبارك أيضاً ، وإنما كان إلقاء الرعْب في قلوب المشركين خارقَ عادة ، لأن أسباب ضده قائمة ، وهي وفرة عددهم وعُددهم وإقدامُهم على الخروج إلى المسلمين ، وحرصهم على حماية أموالهم التي جاءت بها العير .

فجملة : { سألقي في قلوب الذين كفروا } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً إخباراً لهم بما يقتضي التخفيف عليهم في العمل الذي كلفهم الله به بأن الله كفاهم تخذيل الكافرين بعمل آخر غير الذي كَلف الملائكة بعمله ، فليست جملة { سألقي } مفسرة لمعنى { أني معكم } .

ولم يقل سنلقي لئلا يتوهم أن للملائكة المخاطبين سبباً في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كما علمتَ آنفاً .

وتفريع { فاضربوا فوق الأعناق } على جملة : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } المفرعة هنا أيضاً على جملة : { فثبتوا الذين آمنوا } في المعنى ، يؤذن بما اقتضته جملة { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } من تخفيف عمل الملائكة عليهم بعض التخفيف الذي دل عليه إجمالاً قوله : { أني معكم } كما تقدم { فوق الأعناق } على الظرفية لاضْربوا .

و { الأعناق } أعناق المشركين وهو بيّن من السياق ، واللام فيه والمراد بعض الجنس بالقرينة للجنس أو عوض عن المضاف إليه بقرينة قوله بعد : { واضْربوا منهم كل بنان } .

والبنان اسم جمع بَنَانَة وهي الأصبع وقيل طرف الأصبع ، وإضافة ( كل ) إليه لاستغراق أصحابها .

وإنما خصت الأعناق والبنان لأن ضرب الأعناق إتلاف لأجساد المشركين وضرب البنان ، يبطل صلاحية المضروب للقتال ، لأن تناول السلاح إنما يكون بالأصابع ، ومن ثَم كثر في كلامهم الاستغناء بذكر ما تتناوله اليد أو ما تتناوله الأصابع ، عن ذكر السيف ، قال النابغة :

وأن تلادي أن نظرت وشِكّتي *** ومُهري وما ضَمَّتْ إليّ الأنامل

يعني سيفه ، وقال أبو الغول الطهوي :

فدت نفسي وما ملكتْ يميني *** فوارسَ صُدِّقت فيهم ظنوني

يريد السيف ومثل ذلك كثير في كلامهم فضرب البنان يحصل به تعطيل عمل اليد فإذا ضُربت اليد كلها فذلك أجدر .

وضرب الملائكة يجوز أن يكون مباشرة بتكوين قطع الأعناق والأصابع بواسطة فعل الملائكة على كيفية خارقة للعادة وقد ورد في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لهذا المعنى ، فإسناد الضرب حقيقة . ويجوز أن يكون بتسديد ضربات المسلمين وتوجيه المشركين إلى جهاتها ، فإسناد الضرب إلى الملائكة مجاز عقلي لأنهم سببه ، وقد قيل : الأمر بالضرب للمسلمين ، وهو بعيد ، لأن السورة نزلت بعد انكشاف الملحمة .