فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

{ إذ يوحي ربك } أي اذكر يا محمد وقت إيحاء ربك لأنه لا يقف على ذلك سواه وقيل يثبت الأقدام وقت الوحي ، وليس لهذا التقييد معنى ، وقيل العامل فيه ليربط ، ولا وجه لتقييد الربط على القلوب بوقت الإيحاء { على الملائكة } الذين أمد بهم المسلمين { أني معكم } بالنصر والمعونة .

عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : قال لي أبي : يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليسير سيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف وعن الربيع بن أنس قال : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب على الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحترق به .

{ فثبتوا الذين آمنوا } أي بشروهم بالنصر والظفر أو ثبتوهم على القتال بالحضور معهم وتكثير سوادهم ، أو قووا قلوبهم ، وهذا أمر منه سبحانه للملائكة الذين أوحى إليهم بأنه معهم ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها .

واختلفوا في كيفية هذه التقوية والتثبيت فقيل كما أن الشيطان له قوة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر ، فكذلك للملك قوة إلقاء الإلهام في قلب ابن آدم بالخير ، ويسمى ما يلقي الشيطان وسوسة ، وما يلقي الملك لمة وإلهاما فهذا هو التثبيت .

{ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } أي الخوف فلا يكون لهم ثبات ، وقد تقدم بيان معنى إلقاء الرعب في آل عمران ، وكان ذلك نعمة من الله على المؤمنين حيث ألقى الرعب في قلوب الكفار ، قيل هذه الجملة تفسير لقوله أني معكم وكانت الملائكة لا تعرف قتال بني آدم فعلمهم الله ذلك بقوله : { فاضربوا فوق الأعناق } المراد بها أنفسها ، قاله عطية ، وفوق زائدة قاله الأخفش وغيره .

وقال محمد بن يزيد : وهذا عند الجمهور خطأ لأن فوق يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها ، وقيل المراد الرؤوس قال عكرمة : وهذا ليس بجيد لأن فوق لا يتصرف ، وزعم بعضهم أنه يتصرف ، وإنك تقول فوق رأسك برفع فوق وهو ظاهر قول الزمخشري ، وقال أبو عبيدة إنها بمعنى ( على ) تقديره فاضربوهم على الأعناق وهو قريب من الأول .

وقال ابن قتيبة : هي بمعنى ( دون ) قال ابن عطية : وهذا خطأ بين ، وغلط فاحش وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى : { بعوضة فما فوقها } أي فما دونها ، وليست فوق هنا بمعنى دون ، وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر ، وعن الضحاك قال : اضربوا الرقاب وقيل المراد بفوق الأعناق أعاليها لأنها المفاصل التي يكون الضرب فيها أسرع إلى القطع ، قاله في الكشاف ، قيل هذا أمر للملائكة فيكون متصلا بما قبله ، وقيل للمؤمنين فيكون منقطعا عما قبله ، وعلى الأول قيل هو تفسير لقوله فثبتوا الذين آمنوا .

{ واضربوا منهم كل بنان } أي كل مفصل ، قال الزجاج : واحد البنان بنانة وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء ، والبنان مشتق من قولهم أبن الرجل بالمكان إذا أقام به لأنه يعمل بها ما يكون للإقامة والحياة ، وقيل المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وهو عبارة عن الثبات في الحرب ، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء .

قال ابن فارس : البنان الأصابع ، وقال عطية : كل مفصل بنانة ، وقال ابن عباس : الأطراف ، وقال أبو الهيثم : البنان المفاصل قيل أمرهم الله بضرب أعلى الجسد ، وهو الرأس فيه هلاك الإنسان ، وبضرب أضعف الأعضاء وهو البنان ، وفيه تعطيل حركة الإنسان فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد .