البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

العنق معروف وجعه في القلة على أعناق وفي الكثرة على عنوق .

البنان الأصابع وهو اسم جنس واحده بنانة وقالوا فيه البنام بالميم بدل النون قال رؤبة :

يا سال ذات المنطق التمتام *** وكفك المخضّب البنام

{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرّعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان } هذا أيضاً من تعدد النعم إذ الإيحاء إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي ينصرهم ويعينهم وأمرهم بتثبيت المؤمنين والإخبار بما يأتي بعد من إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم والأمر بالضرب فوق أعناقهم وكلّ بنان منهم من أعظم النعم ، وفي ذلك إعلام بأنّ الغلبة والظفر والعاقبة للمؤمنين ، وقال الزمخشري : { إذ يوحى } يجوز أن يكون بدلاً ثالثاً من { إذ يعدكم } وأن ينتصب بثبت ، وقال ابن عطية : العامل في إذ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ولو قدّرناه قريباً لكان قوله { ويثبت } على تأويل عود الضمير على الرّبط وأما عوده على الماء فيمكن أن يعمل ويثبت في إذ انتهى وإنما يمكن ذلك عنده لاختلاف زمان التثبيت عنده وزمان هذا الوحي لأنّ زمان إنزال المطر وما تعلق به من تعاليله متقدم على تغشية النعاس والإيحاء كانا وقت القتال وهذا الوحي إما بإلهام وإما بإعلام ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه إذ معكم الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين أو على إجراء { يوحي } مجرى تقول على مذهب الكوفيين والملائكة هم الذين أمدّ المؤمنون بهم ، ولما كان ما تقدم من تعداد النعم على المؤمنين جاء الخطاب لهم بيغشاكم { وينزل عليكم } { ويطهّركم } { ويذهب } رجز { وليربط على قلوبكم } إذ كان في هذه أشياء لا تناسب منصب الرسالة ولما ذكر الوحي إلى الملائكة أتى بخطاب الرسول وحده فقال { إذ يوحى ربك } ففي ذلك تشريف بمواجهته بالخطاب وحدَه أي مربيك والناظر في مصلحتك .

ويثبت الذين آمنوا .

قال الحسن بالقتال أي فقاتلوا ، وقال مقاتل بشّروهم بالنصر فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل فيقول أبشروا فإن الله ناصركم وذكر الزجاج أنهم يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوب تقوى بها ، وذكر الثعلبي ونحوه قال : صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد ، وقال ابن عطية نحوه قال : ويحتمل أيضاً أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وأن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد وعلى هذا التأويل يجيء قوله { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } مخاطبة للملائكة ثم يجيء قوله { فاضربوا فوق الأعناق } لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت لمن تخاطبه لقبنا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك ، أي هذه كانت صفة الحال ويحتمل أن يكون { سألقي } إلى آخر الآية خبراً يخاطب به المؤمنين عما يفعله بالكفار في المستقبل كما فعله في الماضي ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعاً لهم وحضّاً على نصرة الدين .

وقال الزمخشري والمعني أني معينكم على التثبت فثبتوهم فقوله { سألقي } { فاضربوا } يجوز أن يكون تفسيراً لقوله { أني معكم فثبتوا } ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة ويجوز أن يكون غير تفسير وأن يُراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصحّ عزائمهم ونياتهم وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدون بالملائكة ، وقيل كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي فيقول إني سمعت المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفّين فيقول ابشروا فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه انتهى ، ثم قال ويجوز أن يكون قوله { سألقي } إلى قوله { كل بنان } عقيب قوله { فثبتوا الذين آمنوا } تلقينا للملائكة وما يثبتونهم به كأنه قال قولوا لهم { سألقي } والضاربون على هذا هم المؤمنون انتهى .

والذي يظهر أن ما بعد { يوحي ربك إلى الملائكة } هو من جملة الموحى به وأن الملائكة هم المخاطبون بتثبيت المؤمنين وبضرب فوق الأعناق وكل بنان ، وقال السائب بن يسار : كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السّواي عن الرّعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف كان يأخذ الحصا ويرمي به الطست فيظن فيقول : كنا نجد في أجوافنا مثل هذا ، وقرأ ابن عامر والكسائي والأعرج { الرّعب } بضم العين { وفوق } قال الأخفش : زائدة أي فاضربوا الأعناق وهو قول عطية والضحاك { فيكون الأعناق } هي المفعول باضربوا هذا ليس بجيد لأن { فوق } اسم ظرف والأسماء لا تزاد ، وقال أبو عبيدة : { فوق } بمعنى على تقول ضربته فوق الرأس وعلى الرأس ويكون مفعول { فاضربوا } على هذا محذوفاً أي فاضربوهم فوق الأعناق وهذا قول حسن لا بقاء { فوق } على معناها من الظرفية .

وقال ابن قتيبة { فوق } بمعنى دون قال ابن عطية : وهذا خطأ بيّن وإنما دخل عليه اللبس من قوله { بعوضة فما فوقها } في القلّة والصغر فأشبه المعنى دون انتهى .

وعلى قول ابن قتيبة يكون المفعول محذوفاً أي فاضربوهم ، وقال عكرمة : { فوق } على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق ، قال الزمخشري : يعني ضرب الهام .

قال الشاعر :

واضرب هامة البطل المشيح *** وقال آخر :

غشيته وهو في جأواء باسلة *** عضباً أصاب سوء الرأس فانفلقا

انتهى .

وقال ابن عطية : وهذا التأويل أنبلها ويحتمل عندي أن يريد بقوله { فوق الأعناق } بوصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل ، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمّة الجشمي لابن الدّغنة السلمي حين قال له أخذ سيفي وأرفع عن العظم وأخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال ومنه قول الشاعر :

جعل السيف بين الجيد منه *** وبين أسيل خديه عذارا

فيجيء على هذا { فوق الأعناق } متمكّناً انتهى .

فإن كان قول عكرمة تفسير معنى فحسن ويكون مفعول { فاضربوا } محذوفاً وإن كان أراد أنّ { فوق } هو المضروب فليس بجيّد لأن فوق من الظروف التي لا يتصرف فيها لا تكون مبتدأة ولا مفعولاً بها ولا مضافاً إليها إنما يتصرف فيها بحرف جر كقوله { من فوقهم ظلل } هذا هو الصحيح في { فوق } وقد أجاز بعضهم أن يكون { فوق } في الآية مفعولاً به وأجاز فيها التصرّف قال : تقول فوقك رأسك بالرفع وفوقك قلنسوتك بالنصب ويظهر هذا القول من الزمخشري قال : { فوق الأعناق } أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل فكان إيقاع الضرب فيها جزّاً وتطييراً للرأس انتهى ، والبنان تقدم الكلام فيها في المفردات ، وقالت فرقة منهم الضحاك البنان هي المفاصل حيث كانت من الأعضاء ، وقالت فرقة البنان الأصابع من اليدين والرّجلين .

وقيل الأصابع وغيرها من الأعضاء والمختار أنها الأصابع .

وقال عنترة العبسي :

وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها *** ويضرب عند الكرب كلّ بنان

وقال أيضاً :

وأن الموت طرح يدي إذا ما *** وصلت بنانها بالهندواني

وضرب الكفار مشروع في كلّ موضع منهم وإنما قصد أبلغ المواضع وأثبت ما يكون المقاتل لأنه إذا عمد إلى الرأس أو الأطراف كانت ثابت الجأش متبصراً فيما يضع فيه آلة قتاله من سيف ورمح وغيرهما مما يقع به اللقاء إذ ضرب الرأس فيه أشغل شاغل عن القتال وكثيراً ما يؤدّي إلى الموت وضرب البنان فيه تعطيل القتال من المضروب بخلاف سائر الأعضاء .

قال الفراء : علمهم مواضع الضرب فقال : اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل فكأنه قال فاضربوا الأعالي إن تمكّنتم من الضرب فيها فإن لم تقدروا فاضربوهم في أوساطهم فإن لم تقدروا فاضربوهم في أسافلهم فإنّ الضرب في الأعالي يسرع بهم إلى الموت والضرب في الأوساط يسرع بهم إلى عدم الامتناع والضرب في الأسافل يمنعم من الكرّ والفرّ فيحصل من ذلك إما إهلاكهم بالكلية وإما الاستيلاء عليهم انتهى ، وفي قول الفرّاء هذا تحميل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله ، وقال الزمخشري والمعنى فاضربوا المقاتل والشوى لأنّ الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً انتهى .