الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

قوله تعالى : " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم " العامل في " إذ ، يثبت " أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت . وقيل : العامل " ليربط " أي وليربط إذ يوحي . وقد يكون التقدير : اذكر " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم " في موضع نصب ، والمعنى : بأني معكم ، أي بالنصر والمعونة . " معكم " بفتح العين ظرف ، ومن أسكنها فهي عنده حرف . " فثبتوا الذين آمنوا " أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال ، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول : سيروا فإن الله ناصركم . ويظن المسلمون أنه منهم ، وقد تقدم في " آل عمران{[7622]} " أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم . فكانوا يرون رؤوسا تندر{[7623]} عن الأعناق من غير ضارب يرونه . وسمع بعضهم قائلا يسمع قوله ولا يرى شخصه : أقدم حيزوم{[7624]} . وقيل : كان هذا التثبيت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين نزول الملائكة مددا .

قوله تعالى : " سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب " تقدم في آل عمران بيانه . " فاضربوا فوق الأعناق " هذا أمر للملائكة . وقيل : للمؤمنين ، أي اضربوا الأعناق ، و " فوق " زائدة ، قاله الأخفش والضحاك وعطية . وقد روى المسعودي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق ) . وقال محمد بن يزيد : هذا خطأ ؛ لأن " فوق " تفيد معنى فلا يجوز زيادتها ، ولكن المعنى أنهم أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها . وقال ابن عباس : كل هام وجمجمة . وقيل : أي ما فوق الأعناق ، وهو الرؤوس ، قاله عكرمة . والضرب على الرأس أبلغ ؛ لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ . وقد مضى شيء من هذا المعنى في " النساء " وأن " فوق " ليست بزائدة ، عند قوله : " فوق اثنتين{[7625]} " . " واضربوا منهم كل بنان " قال الزجاج : واحد البنان بنانة ، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء . والبنان مشتق من قولهم : أبن الرجل بالمكان إذا أقام به . فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة . وقيل : المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين . وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب ، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء . قال عنترة :

وكان فتى الهيجاء يحْمِي ذمارها *** ويضربُ عند الكرْب كل بَنَان

ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضا :

وأن الموت طوعُ يدي إذا ما *** وصلت بنانَها بالهِنْدُوانِي

وهو كثير في أشعار العرب ، البنان : الأصابع . قال ابن فارس : البنان الأصابع ، ويقال : الأطراف . وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ويبن{[7626]} . وقال الضحاك : البنان كل مفصل .


[7622]:راجع ج 4 ص 190 ص 232.
[7623]:ندر: سقط.
[7624]:حيزوم: ا فرس من خيل الملائكة.
[7625]:راجع ج 5 ص 63
[7626]:بن بالمكان: أقام.