الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

قوله تعالى : { إِذْ يُوحِي } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بدلٌ ثالث من قوله

{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] . والثاني : أن ينتصب بقوله " ويثبِّتَ " ، قالهما الزمخشري ، ولم يَبْنِ ذلك على عود الضمير . وأمَّا ابنُ عطية فبناه على عَوْد الضمير في قوله " به " ، فقال : " العاملُ في " إذ " العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها ، ولو قدَّرْناه قريباً لكان قوله " ويُثَبِّتَ " على تأويل عَوْده على الرَّبط ، وأمَّا على تأويل عَوْده على الماء فَيَقْلَق أن يعمل " ويثبت " في إذ " ، وإنما قَلِق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي ، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به مِنْ تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النعاس ، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النعاس والإِيحاءُ كانا وقتَ القتال .

قوله : { أَنِّي مَعَكُمْ } مفعول ب " يوحي " ، أي : يوحي كوني معكم بالغلبة والنصر . وقرأ عيسى بن عمر بخلافٍ عنه " إني معكم " بكسرِ الهمزة . وفيه وجهان ، أحدهما : أن ذلك على إِضمارِ القول ، وهو مذهب البصريين . والثاني : إجراء " يوحي " مُجْرى القول لأنه بمعناه ، وهو مذهب الكوفيين . قوله : { فَوْقَ الأَعْنَاقِ } فيه أوجه ، أحدها : أن " فوق " باقيةٌ على ظرفيتها ، والمفعولُ محذوفٌ أي : فاضربوهم فوق الأعناق ، عَلَّمَهم كيف يضربونهم . والثاني : أن " فوق " مفعولٌ به على الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل : فاضربوا رؤوسَهم . وهذا ليس بجيدٍ لأنه لا يَتَصَرَّف . وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول : فوقُك رأسُك برفع " فوقك " ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال : " فوق الأعناق : أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح التي هي مفاصل " . الثالث : وهو قول أبي عبيدة أنها بمعنى على أي : على الأعناق ، ويكون المفعول محذوفاً تقديره : فاضربوهم على الأعناق ، وهو قريبٌ من الأول . الرابع : قال ابن قتيبة : " هي بمعنى دون " . قال ابن عطية : " وهذا خطأ بَيِّنٌ وغلطٌ فاحش ، وإنما دخل عليه اللَّبْس من قوله : { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] ، أي : فما دونها ، وليست " فوق " هنا بمعنى دون ، وإنما المرادُ : فما فوقها في القلة والصغر . الخامس : أنها زائدة أي اضربوا الأعناق وهو قول أبي الحسن ، وهذا عند الجمهورِ خطأ ، لأنَّ زيادةَ الأسماءِ لا تجوز .

قوله : { مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يجوز أن يتعلَّق " منهم " بالأمر قبله أي : ابْتَدِئوا الضرب من هذه الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافِلهم . ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال مِنْ " كلِّ بنان " ؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفةً له لو تأخَّر قال أبو البقاء : " ويَضْعُف أن يكون حالاً من " بنان " إذ فيه تقديمُ حالِ المضاف إليه على المضاف " فكأن المعنى : اضربوهم كيف ما كان .

قال الزمخشري : " يعني ضَرْبَ الهام " قال :

2388 . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأَضْرِبُ هامةَ البطلِ المُشيحِ

وقال :

غَشَّيْتُه وَهْو في جَأْواءَ باسلةٍ *** عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ فانفلقا

وقال ابن عطية : " ويُحتمل أن يريد بقوله : " فوق الأعناق " وَصْفَ أبلغِ ضَرَبات العنقِ ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ، ودون عظم الرأس " ، ثم قال : " منه قوله :

جَعَلْتُ السيفَ بين الجِيْدِ مِنْه *** وبين أَسِيْلِ خَدَّيْه عِذارا "

وقيل : هذا مِنْ ذِكْر الجزء وإرادةِ الكل كقول عنترة :

/عَهْدي به شَدَّ النهار كأنما *** خُضِب البَنانُ ورأسُه بالعِظْلم

والبَنان : قيل الأصابع ، وهو اسمُ جنسٍ ، الواحد بَنانة قال عنترة :

وإنَّ الموتَ طَوْعُ يدي إذا ما *** وصلْتُ بنانَها بالهُنْدُواني

وقال أبو الهيثم : " البنان : المفاصِلُ ، وكلُّ مَفْصِلٍ بنانة " . وقيل : البَنان : الأصابعُ من اليدين والرجلين . وقيل : الأصابع من اليدين والرِّجلين وجميع المَفَاصل من جميع الأعضاء ، وأنشد لعنترة :

وكان فتى الهَيْجاءِ يَحْمي ذِمارَها *** ويَضْرِبُ عند الكَرْب كلَّ بنانِ

وقد تُبْدَلُ نونُه الأخيرة ميماً . قال رؤبة :

يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ النَّمْنامِ *** وكَفِّك المخضَّبِ البنَامِ