قوله تعالى : { إِذْ يُوحِي } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بدلٌ ثالث من قوله
{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] . والثاني : أن ينتصب بقوله " ويثبِّتَ " ، قالهما الزمخشري ، ولم يَبْنِ ذلك على عود الضمير . وأمَّا ابنُ عطية فبناه على عَوْد الضمير في قوله " به " ، فقال : " العاملُ في " إذ " العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها ، ولو قدَّرْناه قريباً لكان قوله " ويُثَبِّتَ " على تأويل عَوْده على الرَّبط ، وأمَّا على تأويل عَوْده على الماء فَيَقْلَق أن يعمل " ويثبت " في إذ " ، وإنما قَلِق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي ، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به مِنْ تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النعاس ، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النعاس والإِيحاءُ كانا وقتَ القتال .
قوله : { أَنِّي مَعَكُمْ } مفعول ب " يوحي " ، أي : يوحي كوني معكم بالغلبة والنصر . وقرأ عيسى بن عمر بخلافٍ عنه " إني معكم " بكسرِ الهمزة . وفيه وجهان ، أحدهما : أن ذلك على إِضمارِ القول ، وهو مذهب البصريين . والثاني : إجراء " يوحي " مُجْرى القول لأنه بمعناه ، وهو مذهب الكوفيين . قوله : { فَوْقَ الأَعْنَاقِ } فيه أوجه ، أحدها : أن " فوق " باقيةٌ على ظرفيتها ، والمفعولُ محذوفٌ أي : فاضربوهم فوق الأعناق ، عَلَّمَهم كيف يضربونهم . والثاني : أن " فوق " مفعولٌ به على الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل : فاضربوا رؤوسَهم . وهذا ليس بجيدٍ لأنه لا يَتَصَرَّف . وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول : فوقُك رأسُك برفع " فوقك " ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال : " فوق الأعناق : أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح التي هي مفاصل " . الثالث : وهو قول أبي عبيدة أنها بمعنى على أي : على الأعناق ، ويكون المفعول محذوفاً تقديره : فاضربوهم على الأعناق ، وهو قريبٌ من الأول . الرابع : قال ابن قتيبة : " هي بمعنى دون " . قال ابن عطية : " وهذا خطأ بَيِّنٌ وغلطٌ فاحش ، وإنما دخل عليه اللَّبْس من قوله : { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] ، أي : فما دونها ، وليست " فوق " هنا بمعنى دون ، وإنما المرادُ : فما فوقها في القلة والصغر . الخامس : أنها زائدة أي اضربوا الأعناق وهو قول أبي الحسن ، وهذا عند الجمهورِ خطأ ، لأنَّ زيادةَ الأسماءِ لا تجوز .
قوله : { مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يجوز أن يتعلَّق " منهم " بالأمر قبله أي : ابْتَدِئوا الضرب من هذه الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافِلهم . ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال مِنْ " كلِّ بنان " ؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفةً له لو تأخَّر قال أبو البقاء : " ويَضْعُف أن يكون حالاً من " بنان " إذ فيه تقديمُ حالِ المضاف إليه على المضاف " فكأن المعنى : اضربوهم كيف ما كان .
قال الزمخشري : " يعني ضَرْبَ الهام " قال :
2388 . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأَضْرِبُ هامةَ البطلِ المُشيحِ
غَشَّيْتُه وَهْو في جَأْواءَ باسلةٍ *** عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ فانفلقا
وقال ابن عطية : " ويُحتمل أن يريد بقوله : " فوق الأعناق " وَصْفَ أبلغِ ضَرَبات العنقِ ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ، ودون عظم الرأس " ، ثم قال : " منه قوله :
جَعَلْتُ السيفَ بين الجِيْدِ مِنْه *** وبين أَسِيْلِ خَدَّيْه عِذارا "
وقيل : هذا مِنْ ذِكْر الجزء وإرادةِ الكل كقول عنترة :
/عَهْدي به شَدَّ النهار كأنما *** خُضِب البَنانُ ورأسُه بالعِظْلم
والبَنان : قيل الأصابع ، وهو اسمُ جنسٍ ، الواحد بَنانة قال عنترة :
وإنَّ الموتَ طَوْعُ يدي إذا ما *** وصلْتُ بنانَها بالهُنْدُواني
وقال أبو الهيثم : " البنان : المفاصِلُ ، وكلُّ مَفْصِلٍ بنانة " . وقيل : البَنان : الأصابعُ من اليدين والرجلين . وقيل : الأصابع من اليدين والرِّجلين وجميع المَفَاصل من جميع الأعضاء ، وأنشد لعنترة :
وكان فتى الهَيْجاءِ يَحْمي ذِمارَها *** ويَضْرِبُ عند الكَرْب كلَّ بنانِ
وقد تُبْدَلُ نونُه الأخيرة ميماً . قال رؤبة :
يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ النَّمْنامِ *** وكَفِّك المخضَّبِ البنَامِ
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.