هي سورة مكية واختلف في قوله تعالى :{ ويرى الذين أوتوا العلم } [ سبأ : 6 ] الآية{[1]} فقالت فرقة هي مكية والمراد المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم وقالت فرقة هي مدنية والمراد من أسلم بالمدينة من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأشباهه{[2]} .
الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس ، أي { الحمد } على تنوعه هو { لله } تعالى من جميع جهات الفكرة ، ثم جاء بالصفات التي تستوجب المحامد وهي ملكه جميع ما في السماوات والأرض ، وعلمه المحيط بكل شيء وخبرته بالأشياء إذ وجودها إنما هو به جلت قدرته ورحمته بأنواع خلقه وغفرانه لمن سبق في علمه أن يغفر له من مؤمن{[9594]} .
وقوله تعالى : { وله الحمد في الآخرة } يحتمل أن تكون الألف واللام للجنس أيضاً وتكون الآية خبراً ، أي أن الحمد في الآخرة هو له وحده لإنعامه وإفضاله وتغمده وظهور قدرته وغير ذلك من صفاته ، ويحتمل أن تكون الألف واللام فيه للعهد والإشارة إلى قوله تعالى : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }{[9595]} [ يونس : 10 ] أو إلى قوله { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده }{[9596]} [ الزمر : 74 ] .
هذا اسمها الذي اشتهرت به في كتب السنة وكتب التفسير وبين القراءة ولم أقف على تسميتها في عصر النبوة . ووجه تسميتها به أنها ذكرت فيها أهل سبأ .
وهي مكية وحكي اتفاق أهل التفسير عليه . وعن مقاتل أن أية { ويرى الذين أوتوا العلم } إلى قوله { العزيز الحميد } نزلت بالمدينة . ولعله بناء على تأويلهم أهل العلم إنما يراد بهم أهل الكتاب الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام . والحق أن الذين أوتوا العلم هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وعزي ذلك إلى ابن عباس أو هم أمة محمد ، قاله قتادة ، أي لأنهم أوتوا بالقرآن علما كثيرا قال تعالى { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } ، على أنه لا مانع من التزام أنهم علماء أهل الكتاب قبل أن يؤمنوا لأن المقصود الاحتجاج بما هو مستقر في نفوسهم الذي أنبأ عنه إسلام طائفة منهم كما نبينه عند قوله تعالى { ويرى الذين أوتوا العلم } الخ .
ولابن الحصار أن سورة سبا مدنية لما رواه الترمذي : عن فروة بن مسيك العطيفي المرادي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : وأنزل في سبأ ما أنزل . فقال رجل : يا رسول الله : وما سبأ? الحديث . قال ابن الحصار : هاجر فروة سنة تسع بعد فتح الطائف . وقال ابن الحصار : يحتمل أن يكون قوله { وأنزل } حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرة فروة ، أي أن سائلا سأل عنه لما قرأه أو سمعه من هذه السورة أو من سورة النمل .
وهي السورة الثامنة والخمسون في عداد السور ، نزلت بعد سورة لقمان سورة الزمر كما في المروي عن جابر بن زيد واعتمد عليه الجعبري كما في الإتقان ، وقد تقدم في سورة الإسراء أن قوله تعالى فيها { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } إلى قوله { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا } إنهم عنوا قوله تعالى في هذه السورة { إن تشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء } فاقتضى أن سورة سبأ نزلت قبل سورة الإسراء وهو خلاف ترتيب جابر بن زيد الذي يعد الإسراء متممة الخمسين .
وليس يتعين أن يكون قولهم { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا } معنيا به هذه الآية لجواز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هددهم بذلك في موعظة أخرى .
وعدد آيها أربع وخمسون في عد الجمهور ، وخمس وخمسون في عد أهل الشام .
من أغراض هذه السورة إبطال قواعد الشرك وأعظمها إشراكهم آلهة مع الله وإنكار البعث فابتدئ بدليل على انفراده تعالى بالإلهية عن أصنامهم ونفي أن تكون الأصنام شفعاء لعبادها .
ثم موضوع البعث ، وعن مقاتل : أن سبب نزولها أن أبا سفيان لما سمع قوله تعالى { ليعذب الله المنافقين والمنافقات } الآية الأخيرة من سورة الأحزاب قال لأصحابه : كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ، فأنزل الله تعالى { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } الآية .
وعليه فما قبل الآية المذكورة من قوله { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } إلى قوله { وهو الرحيم الغفور } تمهيد للمقصود من قوله { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } .
واثبات إحاطة علم الله بما في السماوات وما في الأرض فما يخبر به فهو واقع ومن ذلك إثبات البعث والجزاء .
وإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ، وصدق ما جاء به القرآن وأن القرآن شهدت به علماء أهل الكتاب .
وتخلل ذلك بضروب من تهديد المشركين وموعظتهم بما حل ببعض الأمم المشركين من قبل . وعرض بأن جعلهم لله شركاء كفران لنعمة الخالق فضرب لهم المثل بمن شكروا نعمة الله واتقوه فأوتوا خير الدنيا والآخرة وسخرت لهم الخيرات مثل داود وسليمان ، وبمن كفروا بالله فسلط عليه الأزراء في الدنيا وأعد لهم العذاب في الآخرة مثل سبأ ، وحذروا من الشيطان ، وذكروا بأن ما هم فيه من قرة العين يقربهم إلى الله ، وأنذروا بما سيلقون يم الجزاء من خزي وتكذيب وندامة وعدم النصير وخلود في العذاب ، وبشر المؤمنون بالنعيم المقيم .
افتتحت السورة ب { الحمد لله } للتنبيه على أن السورة تتضمن من دلائل تفرده بالإِلهية واتصافه بصفات العظمة ما يقتضي إنشاء الحمد له والإِخبار باختصاصه به . فجملة { الحمد لله } هنا يجوز كونها إخباراً بأن جنس الحمد مستحَق لله تعالى فتكون الّلام في قوله : { لله } لام الملك . ويجوز أن تكون إنشاء ثناء على الله على وَجه تعليم الناس أن يخصوه بالحمد فتكون اللام للتبيين لأن معنى الكلام : أحمد الله .
وقد تقدم الكلام على { الحمد لله } في سورة الفاتحة ( 2 ) ، وتقدم الكلام على تعقيبه باسم الموصول في أول سورة الأنعام وأول سورة الكهف .
وهذه إحدى سور خمس مفتتحة ب { الحمد لله } وهنّ كلها مكية وقد وضعت في ترتيب القرآن في أوله ووسطه ، والربع الأخير ، فكانت أرباع القرآن مفتتحة بالحمد لله كان ذلك بتوفيق من الله أو توقيف .
واقتضاء صلة الموصول أن ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى يجعل هذه الصلة صالحة لتكون علة لإِنشاء الثناء عليه لأن مِلكه لما في السماوات وما في الأرض ملك حقيقي لأن سببه إيجادُ تلك المملوكات وذلك الإِيجادُ عمل جميل يستحق صاحبه الحمد ، وأيضاً هو يتضمن نعماً جمة . وهي أيضاً تقتضي حمد المنعِم ، لأن الحمد يكون للفضائل وللفواضِل ؛ فما في السموات فإن منه مهابط أنوار حقيقية ومعنوية ، فيها هدى حسِّي ونفساني ، وإليه معارجَ للنفوس في مراتب الكمالات التي بها استقامة السِيَر ، وإزالةُ الغِيَر ، ونزول الغيوث بالمطر . وما في الأرض منه مسارح أنظار المتفكرين ، ومنابت أرزاق المرتزقين ، وميادين نفوس السائرين .
وفي هذه الصلة تعريض بكفران المشركين الذين حمدوا أشياء ليس لها في هذه العوالم أدنى تأثير ولا لَها بما تحتوي عليه أدنى شعور ، ونَسُوا حمد مالكها وسائر ما في السماوات والأرض .
وجملة { وله الحمد في الآخرة } عطف على الصلة ، أي والذي له الحمد في الآخرة ، وهذا إنباء بأنه مالكُ الأمر كله في الآخرة .
وفي هذا التحميد براعة استهلال الغرض من السورة . وتقديم المجرور لإِفادة الحصر ، أي لا حمد في الآخرة إلا له ، فلا تتوجه النفوس إلى حمد غيره لأن الناس يومئذٍ في عالم الحق فلا تلتبس عليهم الصور .
واعلم أن جملة : { الحمد لله } وإن اقتضت قصر الحمد عليه تعالى قصراً مجازياً للمبالغة كما تقدم في سورة الفاتحة بناء على أن حمد غير الله للاعتداد بأن نعمة الله جرت على يديه ، فلما شاع ذلك في جملة { الحمد لله } وأريد إفادة أن الحمد لله مقصور عليه تعالى في الآخرة حقيقة غيرت صيغة الحمد المألوفة إلى صيغة { له الحمد } لهذا الاعتبار ، وهذا نظير معنى قوله تعالى : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] ، فالمعنى : أن قصر الحمد عليه في الآخرة أحق لأن التصرفات يومئذٍ مقصورة عليه لا يلتبس فيها تصرفُ غيرهِ بتصرفه .
ولما نيط حمده في الدنيا والآخرة بما اقتضى مرجعَ التصرفات إليه في الدارين أعقب ذلك بصفتي { الحكيم الخبير } ، لأن الذي أوجد أحوال النشأتين هو العظيم الحكمة الخبير بدقائق الأشياء وأسرارها . فالحكمة : إتقان التصرف بالإِيجاد وضده ، والخبرة تقتضي العلم بأوائل الأمور وعواقبها .
والقرن بين الصفتين هنا لأن كل واحدة تدلّ على معنى أصلي ومعنى لزومي ، وهما مختلفان ، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع لأن الحكيم مشتق من الإِحكام وهو الإِتقان ، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه ، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء منها ، وهو يستلزم التمكن من تصريفها ، ففي التتميم بهذين الوصفين إيماء إلى أن المقصود من الجملة قبله استحماق الذين أقبلوا في شؤونهم على آلهة باطلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مكية في قول الجميع إلا آية منها في قول الضحاك والكلبي، وهي قوله تعالى: {ويرى الذين أوتوا العلم} فإنها مدنية.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
مقصودها: أن الدار الآخرة التي أشار إليها آخر تلك بالعذاب والمغفرة بعد أن أعلم أن الناس يسألون عنها كائنة لا ريب فيها، لما في ذلك من الحكمة، وله عليه من القدرة، وفي تركها من عدم الحكمة والتصوير بصورة الظلم.
ولقصة سبأ التي سميت بها السورة مناسبة كبيرة لهذا المقصد كما يأتي بيانه ولذلك سميت بها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية: توحيد الله، والإيمان بالوحي، والاعتقاد بالبعث. وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية. وبيان أن الإيمان والعمل الصالح -لا الأموال ولا الأولاد- هما قوام الحكم والجزاء عند الله. وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه.
والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه. وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة، وأساليب شتى؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية.
فعن قضية البعث يقول: (وقال الذين كفروا: لا تأتينا الساعة. قل: بلى وربي لتأتينكم)..
وعن قضية الجزاء يقول: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم. والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم)..
وفي موضع آخر قريب في سياق السورة: (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد؟ أفترى على الله كذبا أم به جنة؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد).
ويورد عدة مشاهد للقيامة، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول. يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: لولا أنتم لكنا مؤمنين. قال الذين استكبروا للذين استضعفوا: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا: بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً. وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا. هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟)..
وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك: ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب. وقالوا: آمنا به. وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟ وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل. إنهم كانوا في شك مريب.
وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها)..
ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة: (قل: بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)..
ويرد قرب ختام السورة: (قل: إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب)..
وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله (الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير)..
ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله: (قل: ادعوا الذين زعمتم من دون الله، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وما لهم فيهما من شرك، وما له منهم من ظهير)..
وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا: سبحانك! أنت ولينا من دونهم. بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون).
وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير)..
وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له، وعجزهم عن معرفة موته: (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته. فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)..
وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله: (وقال الذين كفروا: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه).. وقوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا: ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم. وقالوا: ما هذا إلا إفك مفترى، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين)..
ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد).. (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً. ولكن أكثر الناس لا يعلمون)..
وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا بما أرسلتم به كافرون. وقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين. قل: إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون. والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون)..
ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض: قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله. وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون. وما وقع لهؤلاء وهؤلاء. وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد.
هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى، تعرض في كل سورة في مجال كوني، مصحوبة بمؤثرات منوعة، جديدة على القلب في كل مرة. ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال، ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب. وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة. وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة. وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة. وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود.
فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها).. (وقال الذين كفروا: لا تأتينا الساعة. قل: بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)..
والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض؟ إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء. إن في ذلك لآية لكل عبد منيب)..
والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له. حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق. وهو العلي الكبير)..
أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة: (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون)... الخ.
والمكذبون لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم، وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة: (قل: إنما أعظكم بواحدة. أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جنة. إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد)..
وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة. حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسلفنا..
ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط لتيسير عرضها وشرحها. وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً.. وهذا هو طابع السورة الذي يميزها..
تبدأ السورة بالحمد لله، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة، وهو الحكيم الخبير. وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين، عن علم دقيق. وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق. وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم..
فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله. غير متبطرين ولا مستكبرين، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين، ويستفتونهم في أمر الغيب. وهم لا يعلمون الغيب. وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون... وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر. قصة سبأ. وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه: (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق).. وذلك أنهم اتبعوا الشيطان، وما كان له عليهم من سلطان، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين!
ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله. وهم (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير).. وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله -ولو كانوا من الملائكة- فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق.. ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض. والله مالك السماوات والأرض، وهو الذي يرزقهم بلا شريك.. ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون.. ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء. (كلا بل هو الله العزيز الحكيم)..
والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة، وموقفهم منها، وموقف المترفين من كل دعوة، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد. ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين. كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين.. ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل. وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى، وليس بكاذب ولا مجنون.. ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة. وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية: قل: إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب. قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد. قل: إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب.. وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهي مكية وحكي اتفاق أهل التفسير عليه. وعن مقاتل أن أية {ويرى الذين أوتوا العلم} إلى قوله {العزيز الحميد} نزلت بالمدينة. ولعله بناء على تأويلهم أهل العلم إنما يراد بهم أهل الكتاب الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام. والحق أن الذين أوتوا العلم هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعزي ذلك إلى ابن عباس أو هم أمة محمد، قاله قتادة، أي لأنهم أوتوا بالقرآن علما كثيرا قال تعالى {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}، على أنه لا مانع من التزام أنهم علماء أهل الكتاب قبل أن يؤمنوا لأن المقصود الاحتجاج بما هو مستقر في نفوسهم الذي أنبأ عنه إسلام طائفة منهم كما نبينه عند قوله تعالى {ويرى الذين أوتوا العلم}...
من أغراض هذه السورة إبطال قواعد الشرك وأعظمها إشراكهم آلهة مع الله وإنكار البعث فابتدئ بدليل على انفراده تعالى بالإلهية عن أصنامهم ونفي أن تكون الأصنام شفعاء لعبادها.
واثبات إحاطة علم الله بما في السماوات وما في الأرض فما يخبر به فهو واقع ومن ذلك إثبات البعث والجزاء.
وإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وصدق ما جاء به القرآن وأن القرآن شهدت به علماء أهل الكتاب.
وتخلل ذلك بضروب من تهديد المشركين وموعظتهم بما حل ببعض الأمم المشركين من قبل. وعرض بأن جعلهم لله شركاء كفران لنعمة الخالق فضرب لهم المثل بمن شكروا نعمة الله واتقوه فأوتوا خير الدنيا والآخرة وسخرت لهم الخيرات مثل داود وسليمان، وبمن كفروا بالله فسلط عليه الأرزاء في الدنيا وأعد لهم العذاب في الآخرة مثل سبأ، وحذروا من الشيطان، وذكروا بأن ما هم فيه من قرة العين يقربهم إلى الله، وأنذروا بما سيلقون يم الجزاء من خزي وتكذيب وندامة وعدم النصير وخلود في العذاب، وبشر المؤمنون بالنعيم المقيم.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
فصول السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع: 1 «التوحيد»، وبعض الآثار الدالّة عليه في عالم الوجود، وبعض صفات الله المقدّسة كالوحدانية، والربوبية، والاُلوهية. 2 قضيّة المعاد التي نالت النصيب الأوفى من العرض في هذه السورة، باستعراضها ضمن بحوث منوّعة ومن زوايا مختلفة. 3 نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله) والردّ على تخرصات أعدائه حوله، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء. 4 التعرّض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال استعراض جانب من حياة النّبي سليمان (عليه السلام) وحياة قوم سبأ. 5 الدعوة إلى التفكّر والتأمّل والإيمان والعمل الصالح، وبيان تأثير هذه العوامل في سعادة وموفقية البشر. وعلى كلّ حال، فإنّها تشكّل برنامجاً تربوياً شاملا لتربية الباحثين عن الحقّ.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الحمد لله} وذلك أن كفار مكة لما كفروا بالبعث، حمد الرب نفسه، قال عز وجل {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} من الخلق.
{وله الحمد في الآخرة} يعني يحمده أولياؤه في الآخرة إذا دخلوا الجنة، فقالوا: {الحمد لله الذي صدقنا وعده} [الزمر:74]، و {الحمد لله الذي هدانا لهذا} [الأعراف:43].
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الشكر الكامل، والحمد التامّ كله، للمعبود الذي هو مالك جميع ما في السموات السبع، وما في الأرَضين السبع دون كل ما يعبدونه، ودون كل شيء سواه، لا مالك لشيء من ذلك غيره، فالمعنى: الذي هو مالك جميعه. "وَلهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ "يقول: وله الشكر الكامل في الآخرة، كالذي هو له ذلك في الدنيا العاجلة، لأن منه النعم كلها على كل من في السموات والأرض في الدنيا، ومنه يكون ذلك في الآخرة، فالحمد لله خالصا دون ما سواه في عاجل الدنيا، وآجل الآخرة، لأن النعم كلها من قِبله لا يُشركه فيها أحد من دونه، وهو الحكيم في تدبيره خلقه وصرفه إياهم في تقديره، خبير بهم وبما يصلحهم، وبما عملوا، وما هم عاملون، محيط بجميع ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
حمِد نفسه بأن صنع إلى خلقه، ثم هو يُخرّج على وجهتي:
أحدهما: على التعليم لخلقه الحمد له والثناء عليه لآلائه وإحسانه على خلقه، ما لو لا تعليمه إياهم الحمد له والثناء عليه لم يعرفوا ذلك.
والثاني: حمد نفسه لما لم ير في وُسع الخَلق القيام بغاية الحمد له والثناء عليه على آلائه وأياديه، فتولّى ذلك بنفسه.
وأصل الحمد هو الثناء عليه بجميع محامده وإحسانه بأسمائه الحسنى، والشكر له على جميع نعمائه وآلائه.
{الذي له ما في السماوات وما في الأرض} كأنه قال، والله أعلم: الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض، وهو المستحق لذلك لا الأصنام التي عبدتموها وسمّيتموها آلهة.
... وجائز أن يكون قوله: {وله الحمد في الآخرة} أي له الحمد في إنشاء الآخرة لأن إنشاء الدنيا وما فيها، إنما كان حكمة بإنشاء الآخرة، ولم لم يكن إنشاء الآخرة لكان خلق ذلك كله عبثا باطلا.
{وهو الحكيم الخبير} وهو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، وهو الواضع كل شيء موضعه.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قوله: {الْحَمْدُ للَّهِ} وهو الوصف بالجميل على جهة التعظيم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والحمد: هو الشكر، والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم.
ونقيضه الذم، وهو الوصف بالقبيح على جهة التحقير، ولا يستحق الحمد إلا على الإحسان، فلما كان إحسان الله لا يوازيه إحسان أحد من المخلوقين، فكذلك لا يستحق الحمد أحد من المخلوقين مثل ما يستحقه، وكذلك يبلغ شكره إلى حد العبادة ولا يستحق العبادة سوى الله تعالى، وإن استحق بعضنا على بعض الشكر والحمد.
ومعنى قوله:"الحمد لله" أي قولوا: "الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الارض".
وفي الآخرة وإن كانت ليست دار تكليف فلا يسقط فيها الحمد والاعتراف بنعم الله تعالى، بل العباد ملجؤون إلى فعل ذلك لمعرفتهم الضرورية بنعم الله تعالى عليهم وما يفعل من العقاب بالمستحقين، فيه أيضا إحسان لما للمكلفين به في دار الدنيا من الألطاف والزجر عن المعاصي، ويفعل الله العقاب بهم لكونه مستحقا على معاصيه في دار الدنيا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه، ومَدْحُه لنفسه إِخبارٌ عن جلالِه، واستحقاقه لنعوت عزِّه وجمالِه، فهو في الأَزل حامدٌ لنفسِه محمودٌ، وواحدٌ موجود، في الآزال معبود، وبالطلبات مقصود.
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} مِنَ الذين أَعتقهم، وفي النعمة أغرقهم.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ} بتخليد قومٍ في الجنة، وتأبيد قومٍ في النار.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ولما قال: {وَلَهُ الحمد فِي الآخرة} علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب. فإن قلت: ما الفرق بين الحمدين؟ قلت: أمّا الحمد في الدنيا فواجب، لأنه على نعمة متفضل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب.
وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب، لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها، وإنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم: يلتذون به كما يلتذ [من به] العطاش بالماء البارد.
{وَهُوَ الحكيم} الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته...
فقوله: (حكيم) أي في الابتداء يخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق وما لا يصدر إلى ماذا يكون مصير كل أحد فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكل الأكوان ناطقة بألسن أحوالها بحمده، سواء أنطق لسان القال بذلك أم لا، وهو محمود قبل تكوينها.
وحقيقة الحمد في العرف ما يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً، وحقيقة الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من القوى إلى ما خلق له كصرف النظر إلى مطالعة مصنوعاته للاعتبار إلى عليّ حضراته، وإلقاء السمع إلى تلقي ما ينبئ عن مرضاته، والاجتناب عن منهياته.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وأفعاله يحمد عليها، لأنها دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه ويشكر، والعدل الذي يحمد عليه ويعترف بحكمته فيه..
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} لأن في الآخرة، يظهر من حمده، والثناء عليه، ما لا يكون في الدنيا، فإذا قضى اللّه تعالى بين الخلائق كلهم، ورأى الناس والخلق كلهم، ما حكم به، وكمال عدله وقسطه، وحكمته فيه، حمدوه كلهم على ذلك، حتى أهل العقاب ما دخلوا النار، إلا وقلوبهم ممتلئة من حمده، وأن هذا من جراء أعمالهم، وأنه عادل في حكمه بعقابهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله، وتكذيبهم لرسوله، وشكهم في الآخرة، واستبعادهم للبعث والنشور. ابتداء بالحمد لله. والله محمود لذاته -ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر- وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله.
ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض؛ فليس لأحد معه شيء، وما لأحد في السماوات والأرض من شرك، فله -سبحانه- كل شيء فيهما.. وهذه هي القضية الأولى في العقيدة. قضية التوحيد. والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض.
(وله الحمد في الآخرة).. الحمد الذاتي. والحمد المرتفع من عباده. حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا، أو يشركون معه غيره عن ضلالة، تتكشف في الآخرة، فيتمحض له الحمد والثناء.
(وهو الحكيم الخبير).. الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة؛ ويصرف الدنيا والآخرة بحكمة؛ ويدبر أمر الوجود كله بحكمة.. الخبير الذي يعلم بكل شيء، وبكل أمر، وبكل تدبير علماً كاملاً شاملاً عميقاً يحيط بالأمور.
{الْحَمْدُ للَّهِ..} [سبأ: 1] جملة قائلُها الحق سبحانه، فهل قالها لنفسه أم قالها ليُعلِّمنا نحن أنْ نقولها؟ قالها ليُعلِّمنا. والحمد أنْ تأتي بثناء على مستحق الثناء بالصفات الجميلة. ومقابله: الذم، وهو أنْ تأتي لمستحقِّ الذم بالصفات القبيحة، وتنسبها إليه.
وأنت قد تحمد شيئاً لا علاقةَ لك به، لمجرد أنه أعجبك ما فيه من صفات، فاستحق في نظرك أنْ يُحمد، كأن تحمد الصانع على صَنْعة أتقنها مثلاً، وإنْ لم تكُنْ لك علاقة بها.
إذن: فالحمد مرة يكون لأن المحمود فيه صفات تستحق الحمد، وإنْ لم تَصِلْ إليك، فكيف إذا كانت صفات التحميد والتمجيد والتعظيم أثرها واصلَ إليك؟ لا شكَّ أن الحمد هنا أوجب.
لذلك نقول: كل حمد ولو توجَّه لبشر عائد في الحقيقة إلى الله تعالى؛ لأنك حين تحمد إنساناً إنما تحمده على صفة وهبها الله له، فالحمد على إطلاقه ولو لمخلوق حَمْدٌ لله.
وكلمة {الْحَمْدُ للَّهِ..} [سبأ: 1] وردت في القرآن ثمان وثلاثون مرة، وخُصَّتْ منها في فواتح السور خمس مرات: في الفاتحة: والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر.
والحق سبحانه بدأ بالحمد؛ لأنه بدأ خَلْقه من عدم فله علينا نعمة الخَلْق من عدم، ثم أمدَّنا بمقومات الحياة فوفَّر لنا الأقوات التي بها استبقاء الحياة، ثم التناسل الذي به استبقاء النوع، هذا لكيان الإنسان المادي، لكن الإنسان مطلوب منه حركة الحياة، وهو يعيش مع آخرين فلا بدَّ أنْ تتساند حركاتهم لا تتعاند، لا بُدَّ أن تنسجم الحركات وإلا لتفانى الخَلْق.
وهذا التساند لا يتأتَّى إلا بمنهج يُحدِّد الحركات، ويحكم الأهواء، وإلا لجاء واحد يبني، وآخر يهدم. هذا في الدنيا، أما في الحياة الآخرة فسوف يُعِدُّنا لها إعداداً آخر، ويعيدنا إلى خير مما كنا فيه؛ لأننا نعيش في الدنيا بالأسباب المخلوقة لله تعالى، أما في الأخرة فنعيش مع المسبِّب سبحانه مع ذات الحق.
نحن في الدنيا نزرع ونحصد ونطبخ ونخبز ونغزل.. إلخ، هذه أسباب لا بُدَّ من مزاولتها، لكنك في الآخرة تعيش بكُنْ من المسبِّب، في الدنيا تخاف أنْ يفوتك النعيم أو تفوته أنت، أما في الآخرة فنعيمها بَاقٍ لا يزول ولا يحول، في الدنيا تتمتع على قَدْر إمكاناتك، أما في الآخرة فتتمتع على قَدْر إمكانات ربك.
فالحق سبحانه أوجدنا من عدم، وأمدنا من عُدْم، ووضع لنا المنهج الذي يحفظ القيم، ويُنظِّم حركة الحياة قبل أن تُوجد الحياة، فقبل أنْ يخلقك خلق لك كالصانع الذي يُحدِّد مهمة صنعته قبل صناعتها، وهل رأيتم صانعاً صنع شيئاً، ثم قال: انظروا في أيِّ شيء يمكن أن يستخدم؟
{الرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ}
[الرحمن: 1-4] فالمنهج المتمثل في القرآن وُضِع أولاً ليحدد لك مهمتك وقانون صيانتك، قبل أن تُوجَد أيها الإنسان.
والمتأمل لآيات الحمد في بدايات السور الخمس يجد أنها تتناول هذه المراحل كلها، ففي أول الأنعام:
{الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَٰتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
تكلَّم الحق سبحانه عن بَدْء الخَلْق، ثم قال:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ..} [الأنعام: 2] وهذا هو الإيجاد الأول.
ثم في أول الكهف يذكر مسألة وَضْع المنهج والقيم:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1].
هذا هو القانون الذي يحكم الأهواء، ويُنظِّم حركة الحياة لتتساند ولا تتعاند.
وفي أول سورة سبأ التي نحن بصددها يذكر الحمد في الآخرة: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ..} [سبأ: 1] وحين تنظر إلى الحمد في الآخرة تجده حَمْداً مركباً مضاعفاً؛ لأنك في الدنيا تحمد الله على خَلْق الأشياء التي تتفاعل بها لتعيش بالأسباب، لكن في الآخرة لا توجد أسباب، إنما المسبِّب هو الله سبحانه، فالحمد في الآخرة أكبر حَمْداً يناسب عَيْشَك مع ذات ربك سبحانه.
{الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ..} [فاطر: 1].
نحمد الله على القيم، وعلى المنهج الذي وضعه لنا الحق سبحانه بواسطة الملائكة، والملائكة هم رسل الله إلى الخَلْق، ومنهم الحفظة، ومنهم المدبِّرات أمراً التي تدبر شئون الخَلْق، ومنهم مَنْ أسجدهم الله لك.
ثم جاءت أم الكتاب، فجمعت هذا كله في:
{الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] والربّ هو الخالق الممدّ
{الرَّحْمـٰنِ الرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 3-4] أي: في الآخرة، ثم ذكرت وجوب السير على المنهج
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 5-7].
ولأنها جمعتْ البداية والنهاية، والدنيا والآخرة سُمِّيت فاتحةَ الكتاب، وسُمِّيت المثاني، وسُمِّيت أم القرآن.
فقوله تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ..} [سبأ: 1] علَّمنا الله تعالى أن نقولها؛ لأن الناس مختلفون في المواهب، وفي الملَكات، وفي حُسْن الأداء، وفي صياغة الثناء، فلا يستوي في الحمد والثناء الأديب والأُميُّ الذي لا يجيد الكلام؛ لذلك قال الله لنا: أريحوا أنفسكم من هذه المسألة، وسوف أُعلمكم صيغة يستوي فيها الأديب الفيلسوف مع راعي الشاة، وسوف تكون هذه الصيغة هي أحبّ صِيغ الحمد إليَّ، هذه الصيغة هي {الْحَمْدُ للَّهِ..} [سبأ: 1].
لذلك جاء في الحديث قول سيدنا رسول الله في حمد ربه، والثناء عليه:"سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" فحين أقول خطبة طويلة في حمد الله والثناء عليه، وتقول أنت: الحمد لله لا أقول لك قصَّرت في حمد ربك، وكأن هذه الصيغة وتعليمها لنا نعمة أخرى تستحق الحمد؛ لأنها سوَّتْ الجميع، ولم تجعل لأحد فضلاً على أحد في مقام حمد الله والثناء عليه.
وحين تحمد الله على أن علَّمك هذه الصيغة، بماذا تحمده؟ تحمده بأن تقول الحمد لله. إذن: هي سلسلة متوالية من الحمد لا تنتهي، الحمد لله على الحمد لله، ومعنى ذلك أنْ تظل دائماً حامداً لله، وأنْ يظلَّ الله تعالى دائماً وأبداً محموداً.
كما قُلْنا: إن اختلاف المواقيت في الأرض واختلاف المشارق والمغارب إنما جُعِلَتْ لتستمر عبادة الله لا تنقطع أبداً في كل جزئيات الزمن، ففي كل لحظة صلاة، وفي كل لحظة الله أكبر، وفي كل لحظة أشهد ألا إله إلا الله، وفي كل لحظة أشهد أن محمداً رسول الله... إلخ لتظل هذه الألفاظ وهذه العبادات دائرة طوال الوقت، فالكون كله يلهج بذكْر الله وعبادة الله في منظومة بديعة، المهم مَنْ يُحسِن استقبالها، المهم صفاء جهاز الاستقبال عندك.
وقوله سبحانه {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ..} [سبأ: 1] بيَّنَّا أن الحمد في الآخرة أكبر وأعظم من الحمد في الدنيا؛ لأنك في الدنيا تعيش بالأسباب، أما في الآخرة فتعيش مع ذات المسبِّب سبحانه، في الدنيا نعيم موقوت، وفي الآخرة نعيم باقٍ، في الدنيا فناء، وفي الآخرة بقاء؛ لذلك قال سبحانه عن الآخرة:
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
وقال سبحانه حكايةً عن المؤمنين في الآخرة:
{وَقَـالُواْ الْحَـمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74].
{الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ..} [الأعراف: 43].
فإنْ قُلْت: فما وجه الحمد في أن الله تعالى يملك السماوات والأرض؟ نقول: فَرْق بين أنْ يخدمك في الكون مَا لا تملك، وبين أنْ يخدمك ما تملك، فالعظمة هنا أنك تنتفع هنا بما لا تملك، فالسماوات والأرض مِلْك لله، ومع ذلك هي في خدمتك أنت، وليست العظمة من أنْ يخدمكَ ما تملكه.
لذلك قالوا لأحد الناس: لماذا لا تشتري لك سيارة؟ قال: والله الإخوان كثيرون، وكلهم عندهم سيارات، وكل يوم أركب سيارة واحد منهم، ولا يغرمني هذا شيئاً. إذن: انتفاعك بما يملك الغير أعظمُ من انتفاعك بما تملك أنت، وملْك الله جُعل لصالحنا نحن، وهذه تستحق الحمد، فاللهم لا تحرمنا نعمك.
ملحظ آخر أن الحق سبحانه يريد أن يُطمئِنَ العبادَ، فمُلْك السماوات والأرض لله وحده، ولو كانت لغيره لمنعنا منها، فكأن ربك يقول لك: اطمئن فهذا ملْكي وأنا ربك ولن أتخلى عنك أبداً، وليس لي شريك ينازعني، فيمنع عنك خيراتي، فأنا المتفرِّد بالملْك والسلطان.
لذلك، فالحق سبحانه حين يقول للشيء:
{كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] ما قال (كُنْ) إلا لأنه سبحانه يعلم أنه لا يستطيع ألاَّ يكون، والدليل قوله تعالى عن الأرض
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] أي: أصغتْ السمع، وحَقَّ لها ذلك، فما قال سبحانه لشيء كُنْ إلا وهو واثق أنه لا يخرج عن أمره.
لذلك سبق أن قُلْنا: إن الحق سبحانه حين طلب منا أنْ نشهد أنه لا إله إلا هو شهد بها لنفسه أولاً، فقال:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ..} [آل عمران: 18] وهذه شهادة الذات للذات، ولذلك تصرَّف سبحانه في الملك تصرُّف مَنْ لا شريكَ له، فلم يقُل شيئاً أو يحكم حكماً، ثم خاف أن ينقضه أحد أو يعدله.
ثم شهدتْ بذلك الملائكة، ثم شهد بذلك أولو العلم من عباده
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ..} [آل عمران: 18].
فشهادة الله شهادة الذات للذات، وشهادة الملائكة شهادة المشهد، وشهادة أُولي العلم شهادة العلم والدليل.
ونلحظ أيضاً أن الحق سبحانه قال: {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ..} [سبأ: 1] فكرَّر الاسم الموصول (ما) ولم يقُلْ له ما في السماوات والأرض، كما جاء في قوله سبحانه في التسبيح: مرة:
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ..} [الجمعة: 1].
{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ..} [الحشر: 24].
وفَرْق بين التعبيرين؛ لأن هناك خَلْقاً مشتركاً بين السماء والأرض، وهناك خَلْق خاص بالسماء، وخَلْق آخر خاص بالأرض، فإنْ أراد الكل قال:
{مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ..} [الحشر: 24]، وإنْ أراد الاختلاف كلاً في جهته، قال {مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ..} [سبأ: 1].
والسماوات والأرض ظرف لما فيهما من خيرات، والذي يملك الظرف والمكان يملك المظروف فيه، فالحيز هنا مشغول.
ثم يقول سبحانه تذييلاً لهذه الآية {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1] الحكيم: هو الذي يضع الشيء في مكانه وموضعه المناسب، ولا يتأتّى هذا إلا لخبير يعلم الشيء، ويعلم موضعه الذي يناسبه؛ لذلك قال سبحانه {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1] الذي لديه خِبْرة بدقائق الأشياء وبواطنها.
ثم أراد سبحانه أنْ يعطينا نموذجاً لهذه الحكمة ولهذه الخبرة، فقال سبحانه:
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا...}.