اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

مكية{[1]} وهي خمس وخمسون آية وثمان مائة وثلاث وثمانون كلمة وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا .

قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات }{[44033]} اعلم أن السور المفتتحة بالحمد خمسٌ ، سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في النصف الأخير وهما هذه وسورة الملائكة ، والخامسة وهي سورة فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير . والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمةِ الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه خلقنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ » إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ، ويدل عليه قوله تعالى : «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين » فأشار إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلُ لَهُ عِوَجاً قِيَماً لِيُنْذِرَ » فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع يُنْقاد له لاتّبع كُلُّ واحدٍ هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والتّفاني وقال ههنا : «الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا في السَّمَواتِ والأرْضِ » إشارة إلى نعمةِ الإيجاد الثاني بدليل قوله : { وَلَهُ الحمد فِي الآخرة } [ سبأ : 1 ] وقال في الملائكة : { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض } [ فاطر : 1 ] إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى : { جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً } أي : يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كما قال تعالى : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] وقال تعالى عنهم : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر نعمتين أشار بقوله : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 1 ] إلى النعمة العاجلة ، وأشار بقوله : «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ » إلى النعمة الآجلة ، فرتب الافتتاح والاختتام عليهما .

فإن قيل : قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في الآخرة فلماذا ذكر الله السموات والأرض ؟

فالجواب : أن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال : «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ » لتنقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها{[44034]} .

قوله : «الَّذِي لَهُ » يجوز فيه أن يكون تابعاً وأن يكون مقطوعاً نصباً ورفعاً على المدح فيهما{[44035]} و «مَا فِي السَّمَاواتِ » يجوز أن يكون فاعلاً به وهو الأحسن وأن يكون مبتدأ{[44036]} .

قوله : «فِي الآخِرَةِ » يجوز أن يتعلق بنفس الحَمْدِ ، وأن يتعلق بما تعلق به خبره ( وَهُو الحَكِيمُ ){[44037]} يجوز أن يكون معترضاً{[44038]} إذا أعربنا «يَعْلَمُ » حالاً مؤكدة من ضمير الباري تعالى ، ويجوز أن يكون «يَعْلَمُ » مستأنفاً ، وأن يكون حالاً من الضمير في «الخَبِير » .

فصل

له ما في السموات وما في الأرض مِلْكاً وخَلْقاً وله الحمد في الآخرة كما هو له في الدنيا ؛ لأن النعم في الدين كلها منه وقيل : الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] و { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] وهو الحكيم الخبير فالحكمة{[44039]} هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولا يأتي بما يناسب علمه لا يقال له حكيم ، والفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم ، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها{[44040]} ، فقوله حكيم أي في ابتداء الخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ما يصدر من المخلوق وما لا يصدر فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء{[44041]} ثم بيّن كمال خيره بقوله : { يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض } أي ما يدخل فيها من الماء والأموات وما يخرج منها من النبات والأموات إذا حشروا .

قوله : «وَمَا يَنْزِلُ » العامة على «يَنْزِلُ » مفتوح الياء مخفف الزاي مسندٌ إلى ضمير «مَا » وعَليُّ- رضي الله عنه - والسُّلَميُّ بضمها وتشديد الزاي أي الله تعالى{[44042]} . والمراد الأمطار والملائكة والقرآن . «وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا » من الكلام الطيب لقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] والملائكة والأعمال الصالحة لقوله : { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] وقدم{[44043]} : { مَا يَلْجُ فِي الأرض } على : { مَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } ؛ لأن الحبة تُبْذَرُ أولا ثم تسقى ثانيا . وقال : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } ولم يقل : «مَا يَعْرُج إليها » إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة لأن كلمة : «إلَى » للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال : وما يعرج فيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } ؛ لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ثم قال : { وَهُوَ الرحيم الغفور } رحيم عند الإنزال حيث ينزل الرزق من السماء غفور عندما يعرج إليه الأرواح والأعيان والأعمال .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[44033]:بالمعنى من تفسير الرازي 25/238.
[44034]:تفسير الرازي 25/238.
[44035]:الدر المصون 4/407.
[44036]:المرجع السابق .
[44037]:السابق وقد قال أبو البقاء في التبيان 1062: قوله تعالى: "في الآخرة" يجوز أن يكون ظرفا العامل فيه الحمد، أو الظرف وأن يكون حالا من الحمد والعامل فيه الظرف.
[44038]:الدر المصون 4/407 والتبيان 1062 ومشكل إعراب القرآن 2/203 والبيان في غريب إعراب القرآن لابن الأنباري 2/374.
[44039]:في "ب" والحكمة وانظر: معالم التنزيل للبغوي 4/281.
[44040]:في "ب" ومواطنها.
[44041]:انظر: تفسير الفخر الرازي 25/239.
[44042]:أي ينزل وقد ذكرت في مختصر ابن خالويه 121 والكشاف 3/279.
[44043]:ذكره الرازي في تفسيره 25/240.