السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

مكية إلا { ويرى الذين أوتو العلم } الآية وهي أربع أو خمس وخمسون آية ، وثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة ، وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفاً .

{ بسم الله } أي : الذي من شمول قدرته إقامة الحساب { الرحمان } أي : الذي من عموم رحمته ترتيب الثواب والعقاب { الرحيم } أي : الذي يمن على أهل كرامته بطاعته حتى لا عقاب يلحقهم ولا عتاب .

ولما ختم السورة التي قبل هذه بصفتي المغفرة والرحمة بدأ هذه بقوله : { الحمد لله } أي : ذي الجلال والجمال على هذه النعمة .

فائدة : السور المفتتحة بالحمد خمس : سورتان في النصف الأول وهما الأنعام والكهف ، وسورتان في النصف الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة ، والخامسة هي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الثاني الأخير ، والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء ، فإن الله تعالى خلقنا أولاً برحمته ، وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان : الإبداء ، والإعادة ، وفي كل حالة له تعالى نعمتان : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء ، فقال في النصف الأول : { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور } ( الأنعام : 1 ) إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ، ويدل عليه قوله تعالى : { هو الذي خلقكم من طين } ( الأنعام : 2 ) فأشار إلى الإيجاد الأول ، وقال في السورة الثانية : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً } ( الكهف : 1 ) فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء ، فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع تنقاد له الخلق لاتبع كل واحد هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والنفاق وقال ههنا : { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } ملكاً وخلقاً إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى { وله } أي : وحده { الحمد } أي : الإحاطة بالكمال { في الآخرة } أي : ظاهر الكل من يجمعه الحشر وله كل ما فيها لا يدعي أحد ذلك في شيء منه ظاهراً ولا باطناً وقال في سورة الملائكة : { الحمد لله فاطر السماوات والأرض } ( فاطر : 1 ) إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى : { جاعل الملائكة رسلاً } ( فاطر : 1 ) أي : يوم القيامة يرسلهم الله تعالى مسلمين على المسلمين كما قال تعالى : { وتتلقاهم الملائكة } ( الأنبياء : 103 ) وقال تعالى عنهم : { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } ( الزمر : 73 ) وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر نعمتين أشار بقوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة : 2 ) إلى النعمة العاجلة ، وأشار بقوله تعالى : { مالك يوم الدين } ( الفاتحة : 4 ) إلى النعمة الآجلة فرتب الافتتاح والاختتام عليهما .

فإن قيل : قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في الآخرة فلم ذكر الله تعالى السماوات والأرض ؟ أجيب : بأن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله تعالى النعم المرئية وهي ما في السماوات وما في الأرض .

ثم قال : { وله الحمد في الآخرة } ليقابل نعم الآخرة بنعم الدنيا ، ويعلم فضلها بدوامها وقيل : الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى : { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } ( فاطر : 34 ) { والحمد لله الذي صدقنا وعده } ( الزمر : 74 ) وتقدم الكلام على الحمد لغة واصطلاحاً ، والشكر كذلك في أول الفاتحة فتح الله علينا بكل خير وفعل ذلك بأحبابنا .

ولما تقرر أن الحكمة لا تتم إلا بإيجاد الآخرة قال تعالى : { وهو الحكيم } أي : الذي بلغت حكمته النهاية التي لا مزيد عليها ، والحكمة هي العلم بالأمور على وجه الصواب متصلاً بالعمل على وفقه { الخبير } أي : البليغ الخبر وهو العلم بظواهر الأمور وبواطنها حالاً ومآلاً .