سبب هذه الآية فيما قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك : أنه لما نزل تحريم الخمر ، قال قوم من الصحابة : يا رسول الله ، كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ونحو هذا من القول ؟ فنزلت هذه الآية{[4705]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى ، ونزلت { وما كان الله ليضيع إيمانكم }{[4706]} ولما كان أمر القبلة خطيراً ومعلماً من معالم الدين تخيل قوم نقص من فاته ، وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم ، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات ، فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي ، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء مكروهة لم ينص عليها بتحريم ، والشرع هو الذي قبحها وحسن تجنبها ، و «الجناح » الإثم والحرج ، وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية والنسبة التي تترتب للعاصي و { طعموا } معناه ذاقوا فصاعداً في رتب الأكل والشرب وقد يستعار للنوم وغيره ، وحقيقته في حاسة الذوق ، والتكرار في قوله { اتقوا } يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم ، وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال قوم : الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر والإيمان على كماله وعمل الصالحات ، والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة ، والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك ، وهو الإحسان ، وقال قوم الرتبة الأولى لماضي الزمن ، والثانية للحال ، والثالثة للاستقبال ، وقال قوم : الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع ، والثاني في الكبائر ، والثالث في الصغائر .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وليست هذه الآية وقفاً على من عمل الصالحات كلها ، واتقى كل التقوى . بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصياً أحياناً إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن ، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه ، وقد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنه ، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله ، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدراً وعمرّ ، وكان ختن{[4707]} عمر بن الخطاب خال عبد الله وحفصة ، ولاه عمر بن الخطاب على البحرين ثم عزله لأن الجارود سيد عبد القيس قدم على عمر بن الخطاب فشهد عليه بشرب الخمر ، فقال له عمر : ومن يشهد معك ؟ فقال : أبو هريرة ، فجاء أبو هريرة فقال له عمر : بم تشهد ؟ قال لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء ، فقال له عمر : لقد تنطعت في الشهادة ، ثم كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه ، فقدم ، فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله ، فقال له عمر : أخصم أنت أم شهيد ، قال : بل شهيد : قال : قد أديت شهادتك ، فصمت الجارود ثم غدا على عمر ، فقال أقم على قدامة كتاب الله ، فقال له عمر : ما أراك إلا خصماً وما شهد معك إلا رجل واحد ، قال الجارود : إني أنشدك الله ، قال عمر : لتمسكن لسانك أو لأسوأنك ، فقال الجارود : ما هذا والله يا عمر بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني ، فقال أبو هريرة : إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها ، وهي امرأة قدامة ، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله ، فأقامت الشهادة على زوجها ، فقال عمر لقدامة إني حادك ، فقال : لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني ، قال عمر لم ؟ قال : لأن الله تعالى يقول { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } الآية ، فقال له عمر : أخطأت التأويل ، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك ، ثم حده عمر وكان مريضاً فقال له قوم من الصحابة لا نرى أن تجلده ما دام مريضاً ، فأصبح يوماً وقد عزم على جلده ، فقال لأصحابه : ما ترون في جلد قدامة ؟ قالوا : لا نرى ذلك ما دام وجعاً ، فقال له عمر لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إليَّ من أن ألقاه وهو في عنقي ، وأمر بقدامة فجلد ، فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حج عمر وحج معه قدامة مغاضباً له ، فلما كان عمر بالسقيا{[4708]} نام ثم استيقظ فقال : عجلوا عليَّ بقدامة ، فقد أتاني آت في النوم فقال : سالم قدامة فإنه أخوك ، فبعث في قدامة فأبى أن يأتي فقال عمر جروه إن أبى فلما جاء كلمه عمر واستغفر له فاصطلحا ، قال أيوب بن أبي تميمة لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره{[4709]} .
هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها ، إذ ظنّ بعض المسلمين أنّ شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبّس بإثم لأنّ الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنّها رجس من عمل الشيطان . فقد كان سببُ نزول هذه الآية ما في « الصحيحين » وغيرهما عن أنس بن مالك ، والبراء بن عازب ، وابن عبّاس ، أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيفَ بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمرَ أوْ قال وهي في بطونهم وأكلوا الميسر . فأنزل الله : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية . وفي تفسير الفخر روى أبو بكر الأصمّ أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القِمار ، وكيف بالغائبين عنّا في البلدان لا يشعرون أنّ الله حرّم الخمر وهم يَطعَمُونها . فأنزل الله هذه الآيات .
وقد يَلُوح ببادىء الرأي أنّ حال الذين تُوُفُّوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقاً بأن يَسأل عنه الصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلم بأنّ الله لا يؤاخذ أحداً بعمل لم يكن محرّماً من قبل فعله ، وأنّه لا يؤاخذ أحداً على ارتكابه إلاّ بعد أن يعلم بالتحريم ، فالجواب أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر ممّا ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلمّا نزل في الخمر والميسر أنّهما رجس من عمل الشيطان خَشُوا أن يكون للشيطان حظّ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتُوفُّوا قبل الإقلاع عن ذلك أوْ ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم ، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدّة إشفاقهم على إخوانهم . كما سأل عبد الله بن أمّ مكتوم لمّا نزل قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدُون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } [ النساء : 95 ] فقال : يا رسول الله ، فكيف وأنا أعمَى لا أبصر فأنزل الله { غيرَ أولِي الضّرر } [ النساء : 143 ] . وكذلك ما وقع لمّا غُيّرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس ، فأنزل الله تعالى { وما كان الله ليُضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] ، أي صلاتَكم فكان القصد من السؤال التثبّت في التفقّه وأن لا يتجاوزُوا التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم .
ونفيُ الجناح نفي الإثم والعصيان . و ( مَا ) موصولة . و { طَعموا } صلة . وعائد الصلة محذوف . وليست ( ما ) مصدرية لأنّ المقصود العفو عن شيء طعموهُ معلوممٍ من السؤال ، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجُناح هو على تقدير : في طَعْم ما طعموه .
وأصل معنى { طَعِموا } أنّه بمعنى أكلوا ، قال تعالى : { فإذا طعِمتم فانتشروا } [ الأحزاب : 259 ] . وحقيقة الطعم الأكل والشيء المأكول طَعام . وليس الشراب من الطعام بل هو غيره ، ولذلك عُطف في قوله تعالى { فانظُر إلى طعامك وشَرابك لم يَتَسَنَّهْ } [ البقرة : 259 ] . ويدلّ لذلك استثناء المأكولات منه في قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنّه رجس أو فسقاً أهلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] . ويقال : طَعِم بمعنى أذَاق ومصدره الطُّعْم بضمّ الطاء اعتبروه مشتَقّاً من الطَّعْم الذي هو حاسّة الذوق . وتقدّم قوله تعالى { ومن لم يطْعَمه فإنّه منّي } [ البقرة : 249 ] ، أي ومن لم يذقه ، بقرينة قوله { فمن شرب منه } [ البقرة : 249 ] . ويقال : وجَدت في الماء طعْم التراب . ويقال تغيّر طعم الماء ، أي أسِنَ . فمن فصاحة القرآن إيراد فعل { طَعِمُوا } هنا لأنّ المراد نفي التَّبِعَة عمَّن شربوا الخمر وأكلوا لحم المَيْسر قبل نزول آية تحريمهما . واستعمل اللفظ في معنييه ، أي في حقيقته ومجازه ، أو هو من أسلوب التغليب .
وإذ قد عبّر بصيغة المضي في قوله { طعموا } تعيّن أن يكون { إذا } ظرفاً للماضي ، وذلك على أصحّ القولين للنحاة ، وإن كان المشهور أنّ ( إذا ) ظرف للمستقبل ، والحقّ أنّ ( إذا ) تقع ظرفاً للماضي . وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في « مغني اللبيب » . وشاهده قوله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } [ التوبة : 92 ] ، وقوله : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] ، وآيات كثيرة . فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتّقوا ، ويؤوّل معنى الكلام : ليس عليهم جناح لأنّهم آمنوا واتّقوا فيما كان محرّماً يومئذٍ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلاّ قبل تحريمهما .
هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسّرين جارياً على ما ورد في من سبّب نزولها في الأحاديث الصحيحة .
ومن المفسّرين من جعل معنى الآية غير متّصل بآية تحريم الخمر والميسر . وأحسب أنّهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنّهم رأوا أنّ سبب نزولها لا يقصرها على قضيَّة السبب بل يُعمل بعموم لفظها على ما هو الحقّ في أنّ عموم اللفظ لا يخصّص بخصوص السبب ، فقالوا : رَفَع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذّات المطاعم وحلالها ، إذا ما اتّقوا ما حَرّم الله عليهم ، أي ليس من البرّ حرمانُ النفس بتحريم الطيّبات بل البرّ هو التقوى ، فيكون من قبيل قوله تعالى : { وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى } [ البقرة : 189 ] . وفَسَّر به في « الكشاف » مبتدئاً به . وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية متّصلاً بآية : { يأيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } ، فتكون استئنافاً ابتدائياً لمناسبة ما تقدّم من النهي عن أن يحرّموا على أنفسهم طيّباتِ ما أحلّ الله لهم بنذرٍ أو يمينٍ على الامتناع .
وادّعى بعضهم أنّ هذه الآية نزلت في القوم الذين حَرّموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهّب . ومنهم عثمان بن مظعون ، ولم يصحّ أنّ هذا سبب نزولها . وعلى هذا التفسير يكون { طعِموا } مستعملاً في المعنى المشهور وهو الأكل ، وتكون كلمة ( إذا ) مستعملة في المستقبل ، وفعل { طعِموا } من التعْبير عن المستقبل بلفظ الماضي بقرينة كلمة ( إذا ) ، كما في قوله تعالى : { ثمّ إذَا دَعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } [ الروم : 25 ] .
ويعكّر على هذا التفسير أنّ الذين حرّموا الطيّبات على أنفسهم لم ينحصر تحريمهم في المطعوم والشراب بل يشمل اللباس والنساء ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكلام جرى على مراعاة الغالب في التحريم .
وقال الفخر : زعم بعض الجهّال أنّ الله تعالى لمّا جعل الخمر محرّمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادّة عن ذكر الله وعن الصلاة بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعِمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد ، بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق ، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنّه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا ، كما ذكر في آية تحويل القبلة ، فقال { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] ولا شكّ أنّ ( إذا ) للمستقبل لا للماضي . قال الفخر : وهذا القول مردود بإجماع كلّ الأمّة . وأمّا قولهم ( إذا ) للمستقبل ، فجوابه أنّ الحلّ للمستقبل عن وقت نزول الآية في حقّ الغائبين .
والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، ولذلك فعطْف { وعملوا الصالحات } على { اتَّقَوْا } من عطل الخاصّ على العامّ ، للاهتمام به ، كقوله تعالى : { مَن كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائل } ، ولأنّ اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنّها مشتقّة من التوقّي والكفّ .
وأمّا عطف { وآمَنُوا } على { اتّقوا } فهو اعتراض للإشارة إلى أنّ الإيمان هو أصل التقوى ، كقوله تعالى { فَكّ رقبةٍ أو أطعام } إلى قوله ثُمّ كان من الذين آمنوا . والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجردّ التنويه بالتقوى والإيمانِ والعملِ الصالح ، وليس المقصود أنّ نفي الجناح عنهم قيَّد بأن يتّقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات ، للعلم بأنّ لكلّ عمل أثراً على فِعْله أو على تركه ، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبلُ ، وكان الإيمان عَقداً عقلياً لا يقبَل التجدّد تعيّن أنّ المراد بقوله : { وآمنوا } معنى ودَاموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر .
وجملة { ثمّ اتَّقوا وآمنوا } تأكيد لفظي لجملة { إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } وقُرن بحرف { ثمّ } الدالّ على التراخي الرتبي ليكون إيماءاً إلى الازدياد في التقوى وآثارِ الإيمان ، كالتأكيد في قوله تعالى : { كلاّ سيعلمون ثمّ كلاّ سيعلمون } [ النبإ : 4 ، 5 ] ولذلك لم يكرّر قوله : { وعملوا الصالحات } لأنّ عمل الصالحات مشمول للتقوى .
وأمّا جملة { ثمّ اتّقوا وأحسنوا } فتفيد تأكيداً لفظياً لجملة { ثمّ اتّقوا } وتفيد الارتقاء في التقوء بدلالة حرف { ثمّ } على التراخي الرتبي . مع زيادة صفة الإحسان . وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الإحيان بقوله : « أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك » وهذا يتضمَّن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة { وآمنوا } هنا . ويشمل فعل { وأحسنوا } الإحسانَ إلى المسلمين ، وهو زائد على التقوى ، لأنّ منه إحساناً غير واجب وهو ممّا يَجلب مرضاة الله ، ولذلك ذيّله بقوله : { والله يحبّ المحسنين } .
وقد ذهب المفسّرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية ، ومرجعها جعل التكرير في قوله : { ثمّ اتّقوا } على معنى تغاير التقوى والإيمان باختلاف الزمان أو باختلاف الأحوال . وذهب بعضهم في تأويل قوله تعالى { إذا ما اتّقوا } وما عطف عليه إلى وجوه نشأت عن حمله على معنى التقييد لنفي الجناح بحصول المشروط . وفي جلبها طول .
وقد تقدّم أنّ بعضاً من السلف تأوّل هذه الآية على معنى الرخصة في شرب الخمر لمن اتّقى الله فيما عدّ ، ولم يكن الخمر وسيلة له إلى المحرّمات ، ولا إلى إضرار الناس . وينسب هذا إلى قدامة بن مظعون ، كما تقدّم في تفسير آية تحريم الخمر : وأنّ عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب لم يقبلاه منه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح)، يعني حرج، (فيما طعموا)، يعني شربوا من الخمر قبل التحريم، (إذا ما اتقوا) المعاصي، (وآمنوا) بالتوحيد، (وعملوا الصالحات)، يعني أقاموا الفرائض قبل التحريم، (ثم اتَّقوا) المعاصي، (وآمنوا) بما يجيء من الناسخ والمنسوخ، (ثم اتَّقوا) المعاصي بعد تحريمها، (وآمنوا)، يعني وصدقوا، (ثم اتَّقوا) الشِّرك (وأحسنوا) العمل بعد تحريمها، فمن فعل ذلك، فهو محسن، (والله يحب المحسنين).
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا إذ أنزل الله تحريم الخمر بقوله:"إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِر والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ": كيف بمن هلك من إخواننا وهمُ يشربونها وبنا وقد كنا نشربها: "لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ "منكم حرج فيما شربوا من ذلك في الحال التي لم يكن الله تعالى حرّمه عليهم، "إذَا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ": إذا ما اتقى الله الأحياء منهم، فخافوه وراقبوه في اجتنابهم ما حرّم عليهم منه وصدّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهاهم، فأطاعوهما في ذلك كله. "وعَمِلُوا الصّالِحَاتِ": واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربهم. "ثُمّ اتّقَوْا وآمَنُوا": ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه بعد ذلك التكليف أيضا، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به، ولم يغيروا ولم يبدّلوا. "ثُمّ اتّقَوْا وأحْسَنُوا": ثم خافوا الله، فدعاهم خوفهم الله إلى الإحسان. وذلك الإحسان هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال، ولكنه نوافل تقرّبوا بها إلى ربهم طلب رضاه وهربا من عقابه. "وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ": والله يحبّ المتقرّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها. فالاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل. والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق وترك التبديل والتغيير. والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان والتقرب بنوافل الأعمال.
فإن قال قائل: ما الدليل على أن الاتقاء الثالث هو الاتقاء بالنوافل دون أن يكون ذلك بالفرائض؟ قيل: إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إياها إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمها، وصدّقوا الله ورسوله في تحريمها، وعملوا الصالحات من الفرائض. ولا وجه لتكرير ذلك، وقد مضى ذكره في آية واحدة.
وأعاد ذكر الاتّقاء في الآية ثلاث مرات والمراد بكل واحد منها غير المراد بالأخرى، فأما الأوّل: فمن اتقى فيما سلف، والثاني: الاتّقاء منهم في مستقبل الأوقات، والثالث: اتقاء ظلم العباد والإحسان إليهم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعِمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}، يعني من الخمر قبل التحريم، {إِذَا مَا اتَّقَوا} يعني في أداء الفرائض {وءَامَنُوا} يعني بالله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يعني البر والمعروف، {ثُمَّ اتَّقَوا وءَامَنُوا ثُّم اتَّقَوا وأَحْسَنُوا} يعني بعمل النوافل، فالتقوى الأولى عمل الفرائض، والتقوى الثانية عمل النوافل 625.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
..فإن قيل لم كرر الاتقاء ثلاث مرات في الآية؟ قيل: الأول المراد به اتقاء المعاصي. الثاني: الاستمرار على الاتقاء. والثالث: اتقاء مظالم العباد، وضم الإحسان إلى الاتقاء على وجه الندب، واعتبر أبو علي في الثالث الأمرين. وقوله "والله يحب المحسنين "أي يريد ثوابهم وإجلالهم وإكرامهم...
والإحسان: النفع الحسن الواصل إلى الغير، ولا يقال لكل حسن إحسان، لأنه لا يقال في العذاب بالنار أنه إحسان، وإن كان حسنا. والصلاح استقامة الحال وهو مما يفعله العبد، وقد يفعل الله تعالى له الصلاح في دينه باللطف فيه...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) في هذا مقدم معنى مؤخر أقوال: أحدها: أن معنى الأول: إذا ما اتقوا الشرك وآمنوا، أي: صدقوا، وعملوا الصالحات (ثم اتقوا) أي: داموا على ذلك التقوى (وآمنوا) أي ازدادوا إيمانا (ثم اتقوا وأحسنوا) أي: اتقوا بالإحسان في كل محسن، وكل مطيع متق. والقول الثاني: أن التقوى الأول: اجتناب الشرك، والتقوى الثاني: اجتناب الكبائر والتقوى الثالث: اجتناب الصغائر، وهذان قولان معروفان في الآية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
رفع الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها {إِذَا مَا اتقوا} ما حرم عليهم منها {وَءامَنُواْ} وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه {ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ} ثم ثبتوا على التقوى والإيمان {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم، أو أحسنوا إلى الناس: واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
..والتكرار في قوله {اتقوا} يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها، وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال قوم: الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر والإيمان على كماله وعمل الصالحات، والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة، والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك، وهو الإحسان. وقال قوم الرتبة الأولى لماضي الزمن، والثانية للحال، والثالثة للاستقبال. وقال قوم: الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع، والثاني في الكبائر، والثالث في الصغائر.
وليست هذه الآية وقفاً على من عمل الصالحات كلها، واتقى كل التقوى. بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصياً أحياناً إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه،..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانوا قد سألوا عند نزول الآية عما من شأن الأنفس الصالحة الناظرة للورع المتحرك للسؤال عنه، وهو من مات منهم وهو يفعلهما، قال جواباً لذلك السؤال: {ليس على الذين آمنوا وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات جناح} فبين سبحانه أن هذا السؤال غير وارد لأنهم لم يكونوا منعوا منهما، وكانوا مؤمنين عاملين للصالحات متقين لما يسخط الرب من المحرمات، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم {يسئلونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219]، فقال الناس: لم يحرم علينا، إنما قال: إن فيهما إثماً، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين المغرب فخلط في قراءته، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] فكانوا يشربونها حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} [المائدة: 90]، فقالوا: انتهينا يا رب! وقال الناس: يا رسول الله! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان! فأنزل الله {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} [المائدة: 93]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم "ولا يضر كونه من رواية أبي معشر وهو ضعيف لأنه موافق لقواعد الدين، وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: "كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة رضي الله عنه وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، وإذا منادٍ ينادي: ألا! إن الخمر قد حرمت، فقال لي أبو طلحة رضي الله عنه: اخرج فاهرقها، فهرقتها، فقال بعض القوم: قد قتل فلان وفلان وهي في بطونهم؟ فأنزل الله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} على أنه لو لم يرد هذا السببُ كانت المناسبة حاصلة، وذلك أنه تعالى لما أباح الطيب من المأكل وحرم الخبيث من المشرب، نفى الجناح عمن يأكل ما أذن فيه أو يشرب عدا ما حرمه. فأتى بعبارة تعم المأكل والمشرب فقال: {فيما طعموا} أي مأكلاً كان أو مشرباً، وشرط ذلك عليهم بالتقوى ليخرج المحرمات فقال: {إذا ما اتقوا} أي أوقعوا جميع التقوى التي تطلب منهم فلم يطعموا محرماً.
ولما بدأ بالتقوى وهي خوف الله الحامل على البعد عن المحرمات، ذكر أساسها الذي لا تقبل إلا به فقال: {وآمنوا} ولما ذكر الإقرار باللسان، ذكر مصداقه فقال: {وعملوا} أي بما أداهم إليه اجتهادهم بالعلم لا اتفاقاً {الصالحات ثم اتقوا} أي فاجتنبوا ما جدد عليهم تحريمه {وآمنوا} أي بأنه من عند الله، وأن الله له أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وهكذا كلما تكرر تحريم شيء كانوا يلابسونه.
ولما كان قد نفى الجناح أصلاً ورأساً، شرط الإحسان فقال: {ثم اتقوا وأحسنوا} أي لازموا التقوى إلى أن أوصلتهم إلى مقام المراقبة، وهي الغنى عن رؤية غير الله، فأفهم ذلك أن من لم يبلغ رتبة الإحسان لا يمتنع أن يكون عليه جناح مع التقوى والإيمان، يكفر عنه بالبلايا والمصائب حتى ينال ما قدر له مما لم يبلغه عمله من درجات الجنان، ومما يدل على نفاسة التقوى وعزتها أنه سبحانه لما شرطها في هذا العموم، حث عليها عند ذكر المأكل بالخصوص -كما مضى فقال "واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون"، وهذا في غاية الحث على التورع في المأكل والمشرب وإشارة إلى أنه لا يوصل إلى مقام الإحسان إلا به- والله الموفق؛ ولما كان التقدير: فإن الله يحب المتقين المؤمنين، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب المحسنين}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93)} ورد في عدة روايات تقدم بعضها أن بعض الصحابة استشكلوا عند نزول هذا التشديد في الخمر والميسر حال من مات من المؤمنين الذين كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، ولا سيما من حضر منهم غزوتي بدر وأحد، وكان أمر الخمر عندهم أهم، ومنهم من كلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وفي رواية أنهم سألوا عمن ماتوا وعن الغائبين الذين لم تبلغهم آية القطع بالتحريم. وأن هذه الآية نزلت جوابا لهم، وقيل إن الآية نزلت فيمن كانوا يشددون على أنفسهم في الطيبات من الطعام والشراب، ختما للسياق بما يتعلق بحال من بدئ بهم، والروايات المأثورة على الأول.
الطعام ما يؤكل، والطعم (بالفتح) ما يدرك بذوق الفم من حلاوة ومرارة وغيرهما. يقال: طعم (كعلم وغنم) فلان بمعنى أكل الطعام- وطعم الشيء يطعمه ذاق طعمه أو ذاقه فوجد طعمه منه، استعمل في ذوق طعم الشيء من طعام وشراب بأخذ قليل منه بمقدم الفم. ومن الأول قوله تعالى: {فإذا طعمتم فانتشروا} [الأحزاب:53] أي أكلتم، ومن الثاني {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمنه فإنه مني} [البقرة: 249] أي لم يدق طعم مائه. قال الجوهري: الطعم بالفتح ما يؤديه الذوق، يقال طعمه مر أو حلو وقال: طعم يطعم طعما (بالضم) فهو طاعم إذا أكل أو ذاق. وصرح في لسان العرب بأن طعم بمعنى أكل الطعام وأنه إذا جعل بمعنى الذوق جاز فيما يؤكل ويشرب.
أقول أما الحديث فرواه ابن أبي شيبة والبزار بسند صحيح وهو على تشبيه مائها بالغذاء فليس مما نحن فيه...فإذا لا يمكن أن يكون طعم في القرآن بمعنى الشرب مطلقا، ولا يجوز أن يفيد هذا المعنى إلا بالتبع لمعنى الأكل تغليبا له، فيجعل»طعموا» هنا بمعنى أكلوا الميسر وشربوا الخمر. كتغليب الأكل في كل استعمال في مثل النهي عن أكل أموال اليتامى وعن أكل أموال الناس بالباطل. ولم أر أحدا هدي إلى هذا الإيضاح بهذا التدقيق.
والجناح ما فيه مشقة أو مؤاخذة... ويفسرونه غالبا بالإثم وهو ما فيه الضرر، والضرر يكون دينيا ودنيويا، ولم يستعمل في القرآن إلا في حيز النفي بمعنى رفع الحرج والمؤاخذة.
ومعنى الآية على رأي الجمهور «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات» من الأحياء والميتين، والشاهدين والغائبين «جناح»: إثم ولا مؤاخذة «فيما طعموا»: أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمهما – ولا في غير ذلك مما لم يكن محرما ثم حرم «إذا ما اتقوا» أي إذا هم اتقوا في ذلك العهد ما كان محرما عليهم – ومنه الإسراف في الأكل والشرب من المباح «وآمنوا» بما كان قد نزله الله تعالى «وعملوا الصالحات» التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام والجهاد «ثم اتقوا» ما حرمه الله تعالى بعد ذلك عند العلم به «وآمنوا» بما نزل فيه وفي غيره – كما قال {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا فهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} [التوبة: 124، 125] وكما قال: {ويزداد الذين آمنوا إيمانا} [المدثر: 31] {وعملوا الصالحات} التي هي من لوازم الإيمان، «ثم اتقوا» أي ارتقوا عن ذلك فاتقوا الشبهات تورعا وابتعادا من الحرام، «وأحسنوا» أعمالهم الصالحات بأن أتوا بها على وجه الكمال، وتمموا نقصها بنوافل الطاعات {والله يحب المحسنين (93)} فلا يبقى في قلوبهم أثرا من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع في العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما صقال القلوب وزيتها الذي يمد نور الإيمان.
وطالما استشكل المفسرون اشتراط ما اشترطته الآية لنفي الجناح من التقوى المثلثة والإيمان المثنى والإحسان الموحد، وطالما ضربوا في بيداء التأويل واستنباط الآراء، وطالما رد بعضهم ما قاله الآخرون في ذلك، وسبب ذلك اتفاقهم على أن الله تعالى لا يؤاخذ يوم القيامة أحدا بعمله قبل تحريمه كما قال تعالى بعد ذكر محرمات النكاح (إلا ما قد سلف) فقيل إن ما ذكر ليس بشرط لرفع الجناح بل لبيان حال من نزلت فيهم الآية. وأما تكرار التقوى فقيل إنه لمجرد التأكيد، أو للأزمنة الثلاثة، أو لاختلاف ما يتقى من الكفر والكبائر والصغائر، أو من مطلق ومقيد، أو بعضها للثبات والدوام.
وغفل هؤلاء عن معنى الشبهة التي وقعت لبعض الصحابة ونزلت الآية جوابا عنها. وبيانها من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى حرم الخمر والميسر في الآية الأولى من هذه الآيات وبين في الثانية علة التحريم من وجهين، وهذه العلة لازمة لهما، فإذا لم تكن مطردة في العداوة والبغضاء، فهي مطردة في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وناهيك بما ينقص من دين من صد عنهما. وإنما كمال الدين ومناط الجزاء في الآخرة ما يكون من تأثير الإيمان والعمل الصالح في تزكية النفس، وإنارة القلب.
ثانيهما: إن الله تعالى قد عرض بتحريم الخمر قبل نزول آيات المائدة بما بينه في سورة البقرة والنساء – واللبيب تكفيه الإشارة – فكان من لم يفطن لذلك مقصرا في اجتهاده، وربما كان ذلك لإيثار الهوى أو الشهوة.
هذا وجه الشبهة، وتخليص الجواب عنها أن من صح إيمانه فصلح عمله وعمل في كل وقت بالنصوص القطعية المنزلة، وبحسب ما أداه إليه اجتهاده في الظنية، واستقام على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان – فلا يحول دون تزكية ذلك لنفسه وصقله لقلبه، ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرما عليه بحسب اعتقاده، وإن كان في ذلك من الإثم ما حرم بعد لأجله.
ذلك بأن الله تعالى ما حرم شيئا إلا لضرره في الجسم أو العقل أو الدين أو المال أو العرض، والضرر يختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال وقد يتخلف أحيانا، إذ يكفي في التحريم أن يكون ضارا في الغالب، فمن عمل عملا من شأنه الضرر في الجسم فربما ينجو من ضرره بقوة مزاجه إذا هو لم يسرف فيه، ومن عمل عملا من شأنه نقص الدين – وهو غير محرم عليه أو غير عالم بتحريمه -فربما ينجو من سوء تأثيره الذاتي بقوة إيمانه ويقينه وكثرة أعماله الصالحة، بحيث يكون ذلك الضرر كنقطة من القذر وقعت في البحر أو النهر، ولكن قوة الإيمان ورسوخ الدين بالعمل الصالح ينافي الإقدام على ارتكاب المحرم، إلا ما يكون من اللمم والهفوات التي لا يصر المؤمن عليها.
فالجناح العظيم والخطر الكبير من ارتكاب المعصية بعد العلم بتحريمها ليس فيما عساه يصيب مرتكبها من ضررها الذاتي التي حرمت لأجله فقط، لأن هذا قد يتخلف أو يكون ضعيفا أو مغلوبا، بل الجناح والخطر الديني في الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وترجيح هوى النفس على مقتضى الإيمان والاعتقاد. وهذا شيء قد حفظ الله منه من كانوا يشربون الخمر من أهل بدر وأحد. بل حفظهم الله تعالى من ضرر الخمر الاجتماعي الدنيوي أيضا، لأنهم لم يسرفوا فيها ولا سيما بعد نزول آية سورة النساء التي لم تبق لهم إلا وقتا ضيقا لشربها. والآية تدل على ذلك. ويؤيده أن الله تعالى قد ألف بين قلوبهم بنعمته إخوانا. بل كان ذلك شأن الصحابة عامة، كان يكاد الشقاق يقع بينهم كما مر في أسباب نزول الآيات، ولكن لا يلبث أن يغلبه الإيمان، فيكونوا مصداقا لقوله تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراب:201] فالمعصية لا تفسد الروح إلا إذا كان فاعلها غير مبال بحرمة الشرع، ولا يكون تأثيرها الذاتي قويا إلا بالإسراف فيها والإصرار عليها.
وقد سألني بعض الباحثين في علم الأخلاق وفلسفة الاجتماع من المصريين عن السبب في سوء تأثير الزنا في إفساد أخلاق فساق المصريين وإذلال أنفسهم وإضعاف بأسهم وعدم تأثيره في اليابانيين مثل هذا التأثير؟ فأجبته على الفور: إن اليابانيين لا يدينون الله بحرمة الزنا كالمصريين، فمعظم ضرره فيهم بدني وأقله اجتماعي، ولكن ليس له ضرر روحي فيهم. وأما المصريون فمعظم ضرره فيهم روحي لأنهم يقدمون على شيء يعتقدون دينا وعرفا بقبحه وفحشه، فهم بذلك يوطنون أنفسهم على دنية الفحش والاتصاف بالقبح، فلذلك كان من أسباب المهانة والفساد فيهم. فأعجب بالجواب وأذعن له.
قال الإمام الرازي: زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بين في الخمر أنها محرمة عندما تكون موقعة في العداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة – بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق – قالوا:- ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم، لأنه لو كان المراد ذلك لقال: «ما كان جناح على الذين طعموا» كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] ولكنه لم يقل ذلك بل قال: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} – إلى قوله – {إذا ما اتقوا وآمنوا} [المائدة: 93] ولا شك أن «إذا» للمستقبل لا للماضي. واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة. وقولهم أن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي – فجوابه ما روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار؟ وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها؟ فأنزل الله هذه الآيات [الصواب الآية] وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص. اه كلام الرازي بحروفه.
وأقول إن جوابه ضعيف فيما أقره وفيما رده إلا نقل الإجماع، وقد كان رحمه الله على سعة اطلاعه في العلوم العقلية والنقلية غير دقيق في البلاغة وأساليب اللغة حتى إن عبارته نفسها ضعيفة. والصواب أن يقال في الرد على احتجاج أصحاب هذا التحريف.
أولا: أن قوله تعالى: «ليس على الذين آمنوا» الخ. ليس خبرا عمن نزلت بسبب السؤال عنهم الآية، وإنما هي قاعدة عامة إنشائية المعنى يعلم منها حكم من مات قبل القطع بتحريم الخمر وحكم من نزلت الآية في عهدهم وتليت عليهم وحكم غيرهم من عصرهم إلى آخر الزمان. وهذا أبلغ وأعم فائدة من بيان حكم المسؤول عنهم خاصة.
وثانيا: أن قول المشتبهين: لو كان المراد من الآية بيان حكم الذين ماتوا لقال: «ما كان جناح على الذين طعموا» – باطل، وقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} الذي احتجوا به لا يدل على ما زعموا؛ فإن مثل هذا التركيب يدل على نفي الشأن لا على نفي حديث مضى، فمعناه: ما كان من شأنه تعالى ولا من مقتضى سنته وحكمته أن يضيع إيمانكم، وقد بينا هذا من قبل غير مرة ونقلناه عن الكشاف، فهو يعم الماضي والمستقبل، ومثله {ما كان لنا أن نشرك بالله} [يوسف: 38] ويشبه العبارة التي قالوها قوله تعالى: {ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له} [الأحزاب: 33] ولم يقل أحد إنها نفي الحرج في الزمن الماضي، بل تعم نفيه في الحال والاستقبال وهو موضع الفائدة له صلى الله عليه وسلم منها.
وثالثا: لو كان معنى الآية ما ذكروه لأخذ به من شق عليهم تحريم الخمر من الصحابة ومن كان يميل إليها بعدهم.
نعم إنه لولا ما ورد من سبب نزول الآية لكان المتبادر من معناها أنه ليس على المؤمنين الصالحين تضييق وإعنات فيما أكلوا [وإن شئت قلت أو شربوا] من اللذائذ – كما توهم الذين كانوا حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم مبالغة في النسك – إذا كانوا معتصمين بعرى التقوى في جميع الأوقات والأحوال، راسخين في الإيمان متحلين بصالح الأعمال محسنين فيها، لأن الله تعالى لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات، وإنما حرم عليهم الخبائث، كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله والخمر والميسر. وأكل أموال الناس بالباطل، وإنما الجناح والحرج في الطعام والشراب على الكافرين والفاسقين، الذين يسرفون فيهما، ويجعلونهما أكبر همهم من حياتهم الدنيا،ولا يجتنبون الخبيث منهما. فالعبرة في الدين بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والإحسان فذلك هو النسك كله، لا بالطعام والشراب وتعذيب النفوس وإرهاقها. ولعل شيخنا لو فسر الآية لجزم بأن هذا هو المعنى المراد، وأن ما ورد في سبب نزولها- إذا صح- يؤخذ الجواب عنه من فحوى الآية. وهو أنه لا جناح على من كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها لأن العمدة في الدين هو التقوى لا أمر الطعام والشراب الذي لا يحرم منه شيء إلا لضرره وإذا لم يراع سبب النزول في تفسير الآية فلا يمكن أن يقال أن معناها «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات إثم فيما يشربون من الخمر» بعد القطع بتحريمها وتأكيده بما في سياق آيات التحريم من المؤكدات: لأن كلمة (طعموا) لا مدلول لها في اللغة إلا على أكل الطعام في الماضي أو تذوق كل ما له طعم من طعام وشراب بمقدم الفم في الزمن الماضي أيضا، ولو صح أن يكون معنى الآية ما ذكروه لكان نسخا لتحريم شرب الخمر متصلا بالتحريم المؤكد، أو تخصيصا له بغير أهل التقوى الكاملة من المؤمنين الصالحين. وليس لهذا نظير في الإسلام، ولا في غيره من الشرائع والأديان، ولا يتفق مع بلاغة القرآن. فإن قيل: إن الأفعال الماضية إذا وردت في سياق الأحكام التشريعية والقواعد العملية تفيد التكرار الذي يعم المستقبل، بمعنى أن الفعل كلما وقع كان حكمه كذا- فلم لا يجوز على هذا أن يكون معنى الآية رفع الحرج والمؤاخذة عن المؤمن إذا شرب قليلا من الخمر بالشروط الشديدة المبينة فيها، ويدخل في عموم التقوى منها أن لا يسكر ولا يكون بحيث توقع الخمر وبين أحد من الناس بغضا ولا عداوة ولا بحيث تصده عن ذكر الله وعن الصلاة؟
قلت: إن الطعم في اللغة لا يدل على الشرب القليل ولا الكثير بل على ذوق المشروب بمقدم الفم، أو إدراك طعمه من ذوقه بهذه الصفة كما حرره الجوهري وتبعه ابن الأثير في النهاية، وقد مر بيان ذلك. وأنت ترى الفرق الجلي بين الشرب الكثير والشرب القليل وبين طعم الماء بتذوقه في قصة طالوت {قال إن الله مبتليكم بنهر- فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني، إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا منه إلا قليلا منهم} [البقرة: 249] فقد جعل هذا الابتلاء على ثلاث مراتب:
الأولى:البراءة ممن شرب حتى روي. الثانية: الاتحاد التام بمن لم يذق طعمه البتة. الثالثة: بين بين وهي لمن أخذ غرفة بيده فكسر بها سورة الظمإ ولم يكرع فيروه. هذا ما جرينا عليه في تفسير الآية (ج2) وهو ما تعطيه اللغة وجرى عليه جهابذتها في تفسير اللفظ كالزمخشري وتبعه البيضاوي وأبو السعود والرازي والآلوسي وغيرهم، وقالوا إن قوله: «إلا من اغترف غرفة» استثناء من قوله: «فمن شرب منه» إلا أن بعضهم خلط، وأدخل في تفسير الآية ما لا يدل عليها لفظها، تبعا للروايات أو لاصطلاحات الفقهاء فيما يحنث به من حلف أنه لا يشرب من هذا النهر مثلا. وإذا كان هذا هو معنى طعموا فلا فائدة من إباحة تذوق طعم الخمر بمقدم الفم لأحد، فيكون لغوا ينزه كتاب الله عنه.
ولو كان المراد من الآية ما ذكروه لكان نصها: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح في شرب القليل من الخمر- أو ما لا يسكر ولا يضر من الخمر- إذا ما اتقوا- الخ، ولكان أجدر الناس بفهم ذلك منها من أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم ومن خوطبوا بها أولا من فصحاء العرب، ولم يؤثر عن أحد منهم ذلك بل صح عنهم ضده: روى أحمد وأبو داود والترمذي- وقال حديث حسن- عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام»1 الفرق بفتح الراء وسكونها مكيال يسع ستة عشر رطلا. وقيل إن ساكن الراء مكيال آخر يسع 120رطلا. ورواة هذا الحديث كلهم محتج بهم في الصحيحين إلا أبو عثمان عمر- أو عمرو – ابن سالم قاضي مرو التابعي فهو مقبول كما قال الحافظ في تقريب التهذيب، ونقل في أصله توثيقه عن أبي داود وابن حبان وروى أحمد وابن ماجه والدارقطني وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وروى مثله أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث جابر. قال الحافظ ابن حجر رواته ثقات، وفي إسناده داود بن بكر بن أبي الفرات قال في التقريب صدوق. ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا بأس به ليس بالمتين. وسئل عنه ابن معين فقال ثقة.
وروى النسائي والدارقطني عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره» وفي رواية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره وأكثر رجال هذا الحديث قد احتج بهم البخاري ومسلم في الصحيحين، وفيهم الضحاك بن عثمان احتج به مسلم في صحيحه، فلم يبق إلا شيخ النسائي محمد بن عبد الله بن عمار نزيل الموصل. قال الحافظ في تقريب التهذيب: ثقة حافظ، فهذا حديث صحيح لا معطن فيه. ولا عبرة بما يوهمه كلام مثل العيني في هذا المقام. فتحريم قليل كل مسكر وكثيره صح في عدة أحاديث وثبت بالإجماع.
قال الحافظ النسائي بعد رواية حديث سعد وما في معناه: وفي هذا دليل على تحريم المسكر قليله وكثيره وليس كما يقول المخادعون لأنفسهم بتحليلهم آخر الشربة وتحليلهم ما تقدمها الذي يشرب في الفرق قبلها، ولا خلاف بين أهل العلم أن السكر بكليته لا يحدث على الشربة الآخرة دون الأولى والثانية بعدها، وبالله التوفيق اه. أي أن السكر يكون من مجموع ما يشرب لا من الشربة التي تعقبها النشوة.
لم يؤكد تحريم شيء في القرآن مثل هذا التأكيد ولا قريبا منه، وحكمته شدة افتتان الناس بشرب الخمر وكذا الميسر. وتأولهم كل ما يمكن تطرق الاحتمال إليه من أحكام الأديان التي تخالف أهواءهم، كما أولت اليهود أحكام التوراة في تحريم أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره. وكما استحل بعض فساق المسلمين شرب بعض الخمور بتسميتها بغير اسمها، إذ قالوا: هذا نبيد أو شراب لا يسكر إلا الكثير منه وقد أحل ما دون القدر المسكر منه فلان وفلان- يقولون ذلك فيما هو خمر، لا حظ لهم من شربه إلا السكر.
بل تجرأ بعض غلاة الفساق على القول بأن هذه الآيات لا تدل على تحريم الخمر لأن الله قال: «فاجتنبوه» ولم يقل حرمته فاتركوه، وقال: «فهل أنتم منتهون» ولم يقل فانتهوا عنه، وقال بعضهم سألنا هل أنتم منتهون؟ فقلنا: لا، ثم سكت وسكتنا. ويصدق على هؤلاء قوله تعالى: {اتخذوا دينهم هزوا ولعبا} [المائدة:57] ويمكن أن يقال إن هذا اللغو قلما يصدر عمن كان صحيح الإيمان-والعياذ بالله تعالى.
أما المؤمنون فقد قالوا: انتهينا ربنا. وقال بعضهم: انتهينا انتهينا. أكدوا الاستجابة والطاعة كما أكد عليهم التحريم وكان فيهم المدمنون للخمر من عهد الجاهلية، حتى شق عليهم تحريمها فكان أشد من جميع التكاليف الشرعية. وكانوا قد اجتهدوا في آية البقرة لأن الدلالة على التحريم فيها ظنية غير قطعية كما بيناه غير مرة، فلما جاء الحق اليقين والتحريم الجازم، انتهوا وأهرقوا جميع ما كان عندهم من الخمور في الشوارع والأزقة، حتى ظل أثرها وريحها زمنا طويلا، وقد قدح بعض أذكيائهم زناد الفكر عسى أن يهتدوا إلى شيء يجدون فيه بعض الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا إلا أن من قد مات من أهل بدر وأحد كسيد الشهداء حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره ماتوا وهم دائبون على شربها، فلم تغن عنهم هذه الشبهة شيئا. لأن الله لا يكلف الناس العمل بأحكام الشريعة قبل نزولها. وهناك بعض ما ورد في ذلك زائد على ما أوردنا من قبل.
روى البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: قام رسول الله فقال: «يا أهل المدينة إن الله يعرض عن الخمر تعريضا، لا أدري لعله سينزل فيها أمر»- أي قاطع- ثم قام فقال: «يا أهل المدينة إن الله قد أنزل إلي تحريم الخمر، فمن كتب منكم هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشربها».
وأخرج مسلم وأبو يعلى وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن الله قد عرض بالخمر فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به» فلم نلبث إلا يسيرا حتى قال: «إن الله قد حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع» قال فاستقبل الناس بما كان عندهم منها فسفكوها في طرق المدينة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الربيع قال: لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقرب في تحريم الخمر» ثم نزلت آية المائدة فحرمت الخمر عند ذلك.
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: أول ما نزل من تحريم الخمر {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} [البقرة: 219] الآية. فقال بعض الناس نشربها لمنافعها وقال آخرون: لا خير في شيء فيه إثم، ثم نزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء:43] الآية فقال بعض الناس نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} فنهاهم فانتهوا. وأخرج أيضا عن قتادة في تفسير آية النساء أنه قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت هذه الآية «إن الله قد تقرب في تحريم الخمر» ثم حرمها بعد ذلك في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب، وعلم أنها تسفه الأحلام وتجهد الأموال وتشغل عن ذكر الله وعن الصلاة.
وروى أحمد عن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات. ثم ذكر نزول الآيات الثلاث وما كان من شأن الناس عند كل واحدة منهن، وقال في آية النساء: ثم أنزل الله آية أغلظ منها وآي من آية البقرة، وقال مثل ذلك في آية المائدة.
فهذه الأخبار والآثار وغيرها مما تقدم في التصريح بالقطع بتحريم الخمر تدل دلالة قاطعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كافة فهموا من آية المائدة أن الله تعالى حرم الخمر تحريما باتا لا هوادة فيه، وأن الخمر عندهم كل شراب من شأنه أن يسكر شاربه، وقد صرحوا فيها بلفظ التحريم، وأنه كان تعريضا، فجعلته آية المائدة تصريحا، أو أن آيتي البقرة والنساء كانتا مقدمة لتحريمها مفيدتين له إفادة ظنية كما قلنا من قبل. وأن جميع المؤمنين أهرقوا ما كان عندهم من الخمور عند نزول الآية، وكان كلها أو أكثرها من التمر والبسر الذي يكثر في المدينة، وأنهم لم يجدوا لهم مخرجا من ذلك بتأويل ولا رخصة.
نعم إنهم كانوا يسمون بعض الأنبذة بأسماء خاصة وقد سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم ما حكمها إذا صار يسكر كثيرا أو مطلقا. قال أبو موسى الأشعري: قلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمين – البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد – والمزر وهو من الذرة والشعير، ينبذ حتى يشتد. قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم بخواتمه فقال: «كل مسكر حرام» رواه أحمد والشيخان. وفي حديث علي كرم الله وجهه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الجعة. رواه داود والنسائي وغيرهما. والجعة بكسر ففتح نبيذ الشعير. وتسمى بالإفرنجية «بيرا».
والأصل في النبيذ أن ينقع الشيء في الماء حتى ينضح فيشرب بعد يوم أو يومين أو ثلاثة ولم يقصد به أن يترك ليختمر ويصير مسكرا كما تقدم، ونزيد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النبذ في الأواني التي يسرع إليها الاختمار لعدم تأثير الهواء فيها كالحنتم أي جرار الفخار المطلية، والنقير أي جذوع النخل المنقورة، والمزفت وهو المقير أي المطلي بالقار وهو الزفت، والدباء وهو القرع الكبير. ثم بين أن الظروف لا تحل ولا تحرم وأذن بالنبذ في كل وعاء مع تحريم كل مسكر. رواه مسلم وأصحاب السنن.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يؤمر به فيسقى الخادم أو يهراق. رواه أحمد ومسلم. أي يصير بعد ثلاثة أيام مظنة الإسكار، فهذه نهاية المدة التي يحل فيها النبيذ غالبا. وفي آخرها كان يحتاط النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشربه بل يسقيه الخادم أو يريقه لئلا يختمر ويشتد فيصير خمرا والعبرة بالإسكار وعدمه.
فائدة تتبعها قاعدة: علم من الروايات التي أوردناها آنفا أن بعض الصحابة فهم من آيتي البقرة والنساء تحريم الخمر فتركها، ولكن عشاقها وجدوا منهما مخرجا بالاجتهاد. وكان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذر المجتهدين في اجتهادهم وإن كان بعضهم مخطئا فيه، وقد يجيزه له إذا كان قاصرا عليه: أجنب رجل فأخر الصلاة إذ لم يجد الماء فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أصبت» وأجنب آخر فتيمم وصلى إذ لم يجد الماء فذكره له كالأول، فقال له ما قال للأول «أصبت» رواه النسائي. أجاز عمل عمرو بن العاص إذ تيمم للجنابة مع وجود الماء خوفا من البرد وصلى إماما فسأله عن ذلك فاحتج بقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] رواه أحمد والبخاري تعليقا وأبو داود والدارقطني، ولكنه قال لمن ترك الصلاة مع الجماعة وسأله عن ذلك فاعتذر بالجنابة وفقد الماء «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» رواه البخاري.
ويؤخذ من هذه الأحاديث ومن تلك أن التحريم الذي يكلفه جميع الناس هو ما كان نصا صريحا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلف الناس إراقة ما كان عندهم من الخمر إلا عندما نزلت آية المائدة الصريحة بذلك، مع كونه فهم من آيتي البقرة والنساء تحريم الخمر بالتعريض، والمراد من التعريض عين المراد من التصريح إلا أن التعريض حجة على من فهمه خاصة والتصريح حجة المكلفين كافة. ومن هنا تعرف سبب ما كان من تساهل السلف في المسائل الخلافية وعدم تضليل أحد منهم لمخالفه، وتعلم أيضا أن ما قال العلماء بتحريمه اجتهادا منهم لا يعد شرعا يعامل الناس به، وإنما يلتزمه من ظهر له صحة دليلهم من قياس أو استنباط من آية أو حديث دلالتهما عليه غير صريحة. وأن في تعريض كلام الله ورسوله حكما، وسيأتي لهذا البحث تتمة في تفسير {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101].
شبهة أخرى على تحريم قليل المسكر وعلة تحريمه
ويعلم من هذه الأحاديث فساد قول من عساه يقول: إن القليل من الخمر لا تتحقق فيه علة التحريم والقياس أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. ومتى فقدت العلة، كان إثبات الحكم منافيا للحكمة. ووجه فساده أنه لا قياس مع النص، وأن قاعدة سد ذرائع الفساد الثابتة في الشريعة تقتضي منع قليل الخمر والميسر لأنه ذريعة لكثيره، ولعله لا يوجد في الدنيا ما يشابههما في ذلك.
بينا في تفسير آية البقرة التعليل العلمي الطبعي لكون قليل الخمر يدعو إلى كثيرها – وكذلك الميسر – وكون متعاطيهما قلما يقدر على تركهما (ج 2) ولهذا يقل أن يتوب مدمن الخمر، لأن ما يبعثه على التوبة من وازع الدين أو خوف الضرر، يعارضه تأثير سم الخمر – الذي يسمى الغول (أو الكحول) – في العصب الداعي بطبعه إلى معاودة الشرب، وهو ألم يسكن بالشرب موقتا ثم يعود كما كان أو أشد. ومتى تعارضت الاعتقادات والوجدانات المؤلمة أو المستلذة في النص رجحت عند عامة الناس الثانية على الأولى، وإنما يرجح الاعتقاد عند الخواص وهم أصحاب الدين القوي، والإيمان الراسخ وأصحاب الحكمة والعزيمة القوية...
وإننا نرى جميع المتعلمين على الطريقة المدنية في هذا العصر وأكثر الناس في البلاد التي تنشر فيها الجرائد والمجلات العلمية يعتقدون أن الخمر شديد الضرر في الجسم، والعقل والمال وآداب الاجتماع ولم نر هذا الاعتقاد باعثا على التوبة منها إلا للأفراد منهم، حتى إن الأطباء منهم – وهم أعلم الناس بمضارها – كثيرا ما يعاقرونها ويدمنونها، وإذا عذلوا في ذلك أجابوا بلسان الحال أو لسان المقال بما أجاب به طبيب عذله خطيب على أكله طعاما غليظا كان ينهى عن أكله إذ قال: إن العلم غير العمل فكما أنك أيها الخطيب تسرد على المنبر خطبة طويلة في تحريم الغيبة والخوض في الأعراض ثم يكون جل سمرك في سهرك اغتياب الناس، كذلك يفعل الطبيب في نهيه عن الشيء لا ينتهي عنه إذا كان يستلذه.
وقد مضت سنة الله تعالى بأن تكون قوة تأثير الدين على أشدها وأكملها في نشأته الأولى، كما يفيده قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 16] ولهذا ترك جمهور المؤمنين الخمر في عصر التنزيل، ولكن بقي من المدمنين من لم يقو على احتمال آلام الخمار، وما يعترى الشارب بعد تنبه العصب بنشوة السكر، من الفتور والخمود الداعي إلى طلب ذلك التنبيه، فكان أفراد منهم يشربون فيجلدون ويضربون بالجريد وكذا بالنعال، ثم يعودون راضين بأن يكون هذا الحد الذي يحدونه، أو التعزيز الذي يعزرونه، مطهرا لهم من الذنب الديني عند الله تعالى، ولا يبالون بعد ذلك ما تحملوا في سبيل الخمر من إيذاء وإهانة.
وقد كان من هؤلاء المدمنين أبو محجن الثقفي رضي الله عنه ولما أبلى في وقعة القادسية ما أبلى وكان نصر المسلمين على يده، وترك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إقامة الحد عليه وكان قد اعتقله لسكره، تاب إلى الله تعالى، وعلل توبته في بعض الروايات بأنه كان يشرب عالما أن العقاب الشرعي يطهره، وإذ حابوه به – كما ظن – تاب إلى الله تعالى خوفا من عقاب الآخرة. ولم يترك سعد عقابه محاباة كما ظن بل لأن الحدود لا تقام في حال الغزو ولا في دار الحرب والتعزير يرجع إلى الاجتهاد. والتحقيق أن عقاب السكر تعزير، وأن سعدا أداه اجتهاده إلى تعزير أبي محجن بعد أن بذل نفسه في سبيل الله وأبلى يومئذ ما أبلى، ولا مطهر من الذنب أقوى من هذا. وهل يوجد في هذا العصر كثير من الناس يشابهون أبا محجن في قوة إيمانه وقوة عزيمته في دينه؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم؛ وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله؛ وأنه لا يحرم بأثر رجعي؛ فلا عقوبة إلا بنص؛ سواء في الدنيا أو في الآخرة؛ لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم.. والذين ماتوا والخمر في بطونهم، وهي لم تحرم بعد، ليس عليهم جناح؛ فإنهم لم يتناولوا محرما؛ ولم يرتكبوا معصية.. لقد كانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم.. ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها، إذ ظنّ بعض المسلمين أنّ شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبّس بإثم لأنّ الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنّها رجس من عمل الشيطان...
... وقد يَلُوح ببادئ الرأي أنّ حال الذين تُوُفُّوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقاً بأن يَسأل عنه الصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلم بأنّ الله لا يؤاخذ أحداً بعمل لم يكن محرّماً من قبل فعله، وأنّه لا يؤاخذ أحداً على ارتكابه إلاّ بعد أن يعلم بالتحريم، فالجواب أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر ممّا ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلمّا نزل في الخمر والميسر أنّهما رجس من عمل الشيطان خَشُوا أن يكون للشيطان حظّ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتُوفُّوا قبل الإقلاع عن ذلك أوْ ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدّة إشفاقهم على إخوانهم. كما سأل عبد الله بن أمّ مكتوم لمّا نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدُون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} [النساء: 95] فقال: يا رسول الله، فكيف وأنا أعمَى لا أبصر فأنزل الله {غيرَ أولِي الضّرر} [النساء: 143]. وكذلك ما وقع لمّا غُيّرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس: فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس، فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليُضيع إيمانكم} [البقرة: 143]، أي صلاتَكم فكان القصد من السؤال التثبّت في التفقّه وأن لا يتجاوزُوا التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم.
ونفيُ الجناح نفي الإثم والعصيان. و (مَا) موصولة. و {طَعموا} صلة. وعائد الصلة محذوف. وليست (ما) مصدرية لأنّ المقصود العفو عن شيء طعموهُ معلوم من السؤال، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجُناح هو على تقدير: في طَعْم ما طعموه.
وأصل معنى {طَعِموا} أنّه بمعنى أكلوا، قال تعالى: {فإذا طعِمتم فانتشروا} [الأحزاب: 259]. وحقيقة الطعم الأكل والشيء المأكول طَعام. وليس الشراب من الطعام بل هو غيره، ولذلك عُطف في قوله تعالى {فانظُر إلى طعامك وشَرابك لم يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]. ويدلّ لذلك استثناء المأكولات منه في قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنّه رجس أو فسقاً أهلّ لغير الله به} [الأنعام: 145]. ويقال: طَعِم بمعنى أذَاق ومصدره الطُّعْم بضمّ الطاء اعتبروه مشتَقّاً من الطَّعْم الذي هو حاسّة الذوق. وتقدّم قوله تعالى {ومن لم يطْعَمه فإنّه منّي} [البقرة: 249]، أي ومن لم يذقه، بقرينة قوله {فمن شرب منه} [البقرة: 249]. ويقال: وجَدت في الماء طعْم التراب. ويقال تغيّر طعم الماء، أي أسِنَ. فمن فصاحة القرآن إيراد فعل {طَعِمُوا} هنا لأنّ المراد نفي التَّبِعَة عمَّن شربوا الخمر وأكلوا لحم المَيْسر قبل نزول آية تحريمهما. واستعمل اللفظ في معنييه، أي في حقيقته ومجازه، أو هو من أسلوب التغليب.
وإذ قد عبّر بصيغة المضي في قوله {طعموا} تعيّن أن يكون {إذا} ظرفاً للماضي، وذلك على أصحّ القولين للنحاة، وإن كان المشهور أنّ (إذا) ظرف للمستقبل، والحقّ أنّ (إذا) تقع ظرفاً للماضي. وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في « مغني اللبيب». وشاهده قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [التوبة: 92]، وقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} [الجمعة: 11]، وآيات كثيرة. فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتّقوا، ويؤوّل معنى الكلام: ليس عليهم جناح لأنّهم آمنوا واتّقوا فيما كان محرّماً يومئذٍ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلاّ قبل تحريمهما.
هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسّرين جارياً على ما ورد في من سبّب نزولها في الأحاديث الصحيحة.
ومن المفسّرين من جعل معنى الآية غير متّصل بآية تحريم الخمر والميسر. وأحسب أنّهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنّهم رأوا أنّ سبب نزولها لا يقصرها على قضيَّة السبب بل يُعمل بعموم لفظها على ما هو الحقّ في أنّ عموم اللفظ لا يخصّص بخصوص السبب، فقالوا: رَفَع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذّات المطاعم وحلالها، إذا ما اتّقوا ما حَرّم الله عليهم، أي ليس من البرّ حرمانُ النفس بتحريم الطيّبات بل البرّ هو التقوى، فيكون من قبيل قوله تعالى: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى} [البقرة: 189]. وفَسَّر به في « الكشاف» مبتدئاً به. وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية متّصلاً بآية: {يأيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم}، فتكون استئنافاً ابتدائياً لمناسبة ما تقدّم من النهي عن أن يحرّموا على أنفسهم طيّباتِ ما أحلّ الله لهم بنذرٍ أو يمينٍ على الامتناع ...
... والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ولذلك فعطْف {وعملوا الصالحات} على {اتَّقَوْا} من عطل الخاصّ على العامّ، للاهتمام به، كقوله تعالى: {مَن كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائل}، ولأنّ اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنّها مشتقّة من التوقّي والكفّ.
وأمّا عطف {وآمَنُوا} على {اتّقوا} فهو اعتراض للإشارة إلى أنّ الإيمان هو أصل التقوى، كقوله تعالى {فَكّ رقبةٍ أو أطعام} إلى قوله ثُمّ كان من الذين آمنوا. والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجردّ التنويه بالتقوى والإيمانِ والعملِ الصالح، وليس المقصود أنّ نفي الجناح عنهم قيَّد بأن يتّقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات، للعلم بأنّ لكلّ عمل أثراً على فِعْله أو على تركه، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبلُ، وكان الإيمان عَقداً عقلياً لا يقبَل التجدّد تعيّن أنّ المراد بقوله: {وآمنوا} معنى ودَاموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر.
وجملة {ثمّ اتَّقوا وآمنوا} تأكيد لفظي لجملة {إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} وقُرن بحرف {ثمّ} الدالّ على التراخي الرتبي ليكون إيماءاً إلى الازدياد في التقوى وآثارِ الإيمان، كالتأكيد في قوله تعالى: {كلاّ سيعلمون ثمّ كلاّ سيعلمون} [النبإ: 4، 5] ولذلك لم يكرّر قوله: {وعملوا الصالحات} لأنّ عمل الصالحات مشمول للتقوى.
وأمّا جملة {ثمّ اتّقوا وأحسنوا} فتفيد تأكيداً لفظياً لجملة {ثمّ اتّقوا} وتفيد الارتقاء في التقوى بدلالة حرف {ثمّ} على التراخي الرتبي. مع زيادة صفة الإحسان. وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: « أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» وهذا يتضمَّن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة {وآمنوا} هنا. ويشمل فعل {وأحسنوا} الإحسانَ إلى المسلمين، وهو زائد على التقوى، لأنّ منه إحساناً غير واجب وهو ممّا يَجلب مرضاة الله، ولذلك ذيّله بقوله: {والله يحبّ المحسنين}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وكرر الله تعالى التقوى فقال تعالت كلماته: (ثم اتقوا وآمنوا) لبيان أنه يجب استمرارهم على التقوى وحث غيرهم عليها، وكان التعبير ب (ثم) لتأكيد معنى الاستمرار على التراخي (ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) العطف ب (ثم) هنا هو أيضا لتأكيد معنى الاستمرار مع الزمن والتقوى كما قلنا هي امتلاء القلب بالخشية، وهذا للحث عليها، ولتشريف الذين يستمرون عليها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لا جناح على المؤمنين في ما طعموا قد تكون هذه الآية من الآيات الغامضة في معناها، بالنظر إلى ما فيها من التكرار، من دون تفصيل لحدود هذه الكلمات الّتي تختلف بها المعاني، ما يجعل المتأمِّل في حَيْرة بين الاحتمال الَّذي يضع المسألة في نطاق التأكيد للمعنى الواحد، وبين الاحتمال الَّذي يضعها في نطاق المعاني المتفقة في طبيعتها المختلفة في متعلقاتها ومواردها، من غير أن يلاحظ أساساً لهذا التحديد هنا وهناك إلاَّ بطريق الاستنتاج الذاتي...
. إنَّنا نستوحي من هذه الآية، أنَّ القضيّة الأساسيّة في حياة الإنسان المؤمن هي المحافظة على هذه الخطوط الأساسيّة، وهي الإيمان والتقوى والعمل الصالح والإحسان، ما يدفع الإنسان إلى مواجهتها بحذرٍ ووعيٍ وتدقيقٍ وملاحقةٍ دائمةٍ للتعديات المضادة الّتي تواجهه في الطريق. وتلك هي الحقيقة الإلهيّة التي تُمثل كل الوصايا والتعاليم والشرائع في ما أراد الله أن يجعله الحدّ الَّذي يجب على الإنسان أن لا يتجاوزه ولا يتعدّاه في ما يريد الله أن يعمقه في داخل الإنسان فكراً وشعوراً والتزاماً وامتداداً في خط الحياة الراضية المطمئنة بين يديه. وقد يلاحظ المتأمل التركيز على البدء بالتقوى والتعقيب بالإيمان والعمل الصالح، أو الإيمان وحده، أو الإحسان بعده، في الوقت الَّذي قد يكون الأمر بالعكس في عمليّة التسلسل في الإيمان والتقوى، على أساس أنَّ التقوى هي نتيجة للإيمان، ولكن قد يُجاب عن ذلك، بأن المراد بالتقوى، هي هذه الحالة الوجدانيّة الروحيّة الّتي تُثير في عمق الشعور الإنساني، الإحساس بالمسؤوليّة في قضيّة الإيمان والإحسان، انطلاقاً من القلق الروحي المتطلّع إلى المعرفة، في شوق غامض يسير به في طريق الله. ويبقى للمتأمل في الآية المجال الَّذي يُمكِّنه من اكتشاف اتجاهٍ جديدٍ في فهم المعنى، لأنَّ هناك أكثر من وجه تحتمله هذه الآية، لما يحيط الجانب التعبيري فيها من غموض، مما لم يوضح الله لنا كل أسراره. والله العالم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هنالك كلام كثير بين المفسّرين القدامى والمحدثين حول هذا التكرار، فبعض يراه للتوكيد ويقول: أنّ أهمية التقوى والإِيمان والعمل الصالح تقتضي الإِعادة والتكرار والتوكيد. إِلاّ أنّ جمعاً آخر من المفسّرين يعتقدون أنّ كلّ جملة من هذه الجمل المكررة تشير إلى حقيقة منفصلة عن الأُخرى، وأنّ هناك احتمالات متعددة بشأن اختلاف كل جملة عن الأُخرى، ولكن معظم هذه الاحتمالات لا يقوم عليها دليل أو شاهد. ولعل خير ما قيل بهذه الخصوص هو قولهم: أنّ المقصود بالتقوى في المرّة الأولى هو ذلك الإِحساس الداخلي بالمسؤولية والذي يسوق الإِنسان نحو البحث والتدقيق في الدين، ومطالعة معجزة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والبحث عن الله، فتكون نتيجة ذلك الإِيمان والعمل الصالح، وبعبارة أُخرى: إِذا لم يكن في الإِنسان شيء من التقوى فإنّه لا يتجه إلى البحث عن الحقيقة، وعليه فإن ورود كلمة «التقوى» لأوّل مرّة في هذه الآية إِشارة إلى هذا المقدار من التقوى، وليس في هذا تناقض مع بداية الآية التي تقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات...) لأنّ الإِيمان هنا يمكن أن يكون بمعنى التسليم الظاهري، بينما الإِيمان الذي يحصل بعد التقوى هو الإِيمان الحقيقي. وتكرار التقوى للمرّة الثّانية إِشارة إلى التقوى التي تنفذ إلى أعماق الإِنسان فيزداد تأثيرها، وتكون نتيجتها الإِيمان الثابت الوطيد الذي يؤدي إلى العمل الصالح، ولذلك لم يرد «العمل الصالح» بعد «الإِيمان» في الجملة الثّانية: (ثمّ اتقوا وآمنوا) أي أنّ هذا الإِيمان من الثبوت والنفاذ بحيث لا حاجة معه لذكر العمل الصالح. وفي المرحلة الثّالثة يدور الكلام على التقوى التي بلغت حدّها الأعلى بحيث إنّها فضلا عن دفعها إلى القيام بالواجبات، تدفع إلى الإِحسان أيضاً، أي إلى الأعمال الصالحة التي ليست من الواجبات. وعليه فإنّ هذه الضروب الثلاثة من التقوى تشير إلى ثلاث مراحل من الإِحساس بالمسؤولية وكأنّها تمثل المرحلة (الابتدائية) والمرحلة (المتوسطة) والمرحلة (النهائية)، ولكل مرحلة قرينة تدل عليها في الآية. أمّا ما ذهب إِليه مفسّرون آخرون بشأن تناول الآية ثلاثة أنواع من التقوى وثلاثة أنواع من الإِيمان فلا قرينة عليه ولا شاهد في الآية...