ثم بين تعالى رفع الإثم عمن مات وهو يشرب الخمر قبل التحريم- كما سنفصله- بقوله سبحانه :
[ 93 ] { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ( 93 ) } .
{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } أي : { فيما طعموا } مما حرم بعد تناولهم { إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين } .
الأولى : قال بعض المفسرين : إن قيل : لم خص المؤمنين بنفي الجناح في الطيبات إذا ا اتقوا ، والكافر كذلك ؟ قال الحاكم : لأنه لا يصح نفي الجناح عن الكافر ، وأما المؤمن فيصح أن يطلق عليه ، ولأن الكافر سد على نفسه طريق معرفة الحلال والحرام . انتهى .
وفي ( العناية ) : تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال ليس سبيل اشتراطها ، فإن عدم الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يشترط بشرط . بل على سبيل المدح والثناء والدلالة على أنهم بهذه الصفة .
قال الزمخشري : ومثاله أن يقال لك : هل على زيد فيما فعل جناح ؟ فتقول- وقد علمت أن ذلك أمر مباح- ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمنا محسنا ؛ تريد : إن زيدا تقي مؤمن محسن ، وإنه غير مؤاخذ بما فعل .
وقال العلامة أبو السعود : ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة ، لا دخل لها في انتفاء الجناح . وإنما ذكرت في حيز { إذا } شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ، ومدحا لهم بذلك ، وحمدا لأحوالهم . وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء في كل مرة تمييزا بينها وبين ماله دخل في الحكم ، فإن مساق النظم الكريم بطريق العبارة- وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتي بقضية كلمة { إذا ما } - لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها ، فكأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى . مع مالهم من الصفات الحميدة- بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال-بوإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذاك . ولو حرما في عصرهم ، لاتقوهما بالمرة .
وقال الطيبي : المعنى أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات . وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال . وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك ، وعلى الإيمان بما يجب / الإيمان به ، وعلى الأعمال الصالحة لتحصيل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج ( أن تعبد الله كأنك تراه ) وهو المعني بقوله تعالى : { وأحسنوا . . . } الخ وبه ينتهي للزلفى عند الله ومحبته . { والله يحب المحسنين } .
قال الخفاجي : وهذا دفع للتكرير وأنه ليس لمجرد التأكيد ، لأنه يجوز فيه العطف ب ( ثم ) كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى : { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون }{[3217]} . بل به باعتبار تغاير ما علق به مرة بعد أخرى . والله أعلم .
الثانية : الإحسان المذكور في الآية : إما إحسان العمل ، أو الإحسان إلى الخلق ، أو إحسان المشاهدة المتقدم ؛ ولا مانع من الحمل على الجميع .
الثالثة : روي في سبب نزولها عن أنس قال{[3218]} : " كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة . فنزل تحريم الخمر . فأمر صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى . فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت . قال ، فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت . فقال لي : اذهب فأهرقها . قال ، فجرت في سكك المدينة .
قال ، وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ . فقال بعض القوم : قتل قوم وهي في بطونهم . / قال ، فأنزل الله : { ليس على الذين آمنوا . . . } الآية " . رواه البخاري في{[3219]} ( التفسير ) .
وروى الترمذي{[3220]} عن البراء بن عازب قال : " مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر . فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ قال ، فنزلت : { ليس على الذين . . . } الآية " . وقال : حسن صحيح .
وعن ابن عباس قال{[3221]} : " قالوا : يا رسول الله ! أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ ( لما نزل تحريم الخمر ) ، فنزلت : { ليس على الذين . . . } الآية " . أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
وروى الإمام أحمد{[3222]} عن أبي هريرة قال : " حرمت الخمر ثلاث مرات : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم/ المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر . فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ؟ فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما . . . } {[3223]} إلى آخر الآية . فقال الناس : ما حرم علينا . إنما قال : { فيهما إثم كبير } . وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام ، صلى رجل من المهاجرين . أم أصحابه في المغرب . خلط في قراءته فأنزل الله{[3224]} آية أغلظ منها : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } . فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق ، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك{[3225]} : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر . . . } - إلى قوله- { فهل أنتم منتهون } ؟ . فقالوا : انتهينا . ربنا ! فقال الناس : يا رسول الله ! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم ، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان ؟ فأنزل الله تعالى : { ليس على الذين آمنوا . . . } الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو حرمت عليهم ، لتركوها كما تركتم " .
قال ابن كثير : انفرد به أحمد .
وعن{[3226]} أبي ميسرة قال : " لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهم ! بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزلت الآية التي في البقرة : { يسألونك عن الخمر والميسر . . . } الآية ، فدعي عمر / فقرئت عليه فقال : اللهم ! بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } . فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا قال : حي على الصلاة- نادى : لا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم ! بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزلت الآية التي في المائدة . فدعي عمر فقرئت عليه . فلما بلغ قول الله تعالى : { فهل أنتم منتهون } قال عمر : انتهينا ! انتهينا ! " رواه الإمام أحمد وأصحاب ( السنن ) .
وروى البيهقي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار . شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض . فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان . وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فيقول : والله ! لو كان بي رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا . حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { إنما الخمر . . . } - إلى قوله- { فهل أنتم منتهون } .
فقال ناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحد . فأنزل الله تعالى : { ليس على الذين . . . } الآية " . ورواه النسائي في ( التفسير ) .
وأخرج أبو بكر البزار عن جابر رضي الله عنه قال : " اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد ، فقالت اليهود : فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم . فنزلت : { ليس على الذين . . . } الآية " . قال البزار . إسناده صحيح .
وقد ساق ابن كثير- هنا- أحاديث كثيرة في تحريم الخمر مما رواه أصحاب ( الصحاح ) و ( السنن ) و ( المسانيد ) ، فمن شاء فليرجع إليه . ولا يخفى أن تحريمها معلوم من الدين بالضرورة .
/ وقد روى السيوطي في ( الجامع الكبير ) عن ابن عساكر بسنده إلى سيف بن عمر عن الربيع وأبي المجالد وأبي عثمان وأبي حارثة قالوا : " كتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما : إن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب . منهم ضرار وأبو جندل . فسألناهم فتأولوا وقالوا : خيرنا فاخترنا . قال : { فهل أنتم منتهون } ؟ ولم يعزم . فكتب إليه عمر : فذلك بيننا وبينهم { فهل أنتم منتهون } يعني : فانتهوا . وجمع الناس فاجتمعوا على أن يضربوا فيها ثمانين جلدة ويضمنوا النفس ، ومن تأول عليها بمثل هذا ، فإن أبى قتل . وقالوا : من تأول على ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، يزجر بالفعل والقتل . فكتب عمر إلى أبي عبيدة : أن ادعهم . فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم . وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين . فبعث إليهم فسألهم على رؤوس الأشهاد فقالوا : حرام . فجلدهم ثمانين . وحد القوم ، وندموا على لجاجتهم ، وقال : ليحدثن فيكم- يا أهل الشام !- حادث ، فحدث{[3227]} الرمادة " .