في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات ، وذكر فيها تحريم الخمر ، ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة ، مختلفتان في الباعث والهدف .

قال بعض المتحرجين من الصحابة : كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا : فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم [ أي قبل تحريمها ] .

وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ؛ يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع ، أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ؛ وهي رجس من عمل الشيطان ، ماتوا والرجس في بطونهم !

عنذئذ نزلت هذه الآية :

( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين ) . .

نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم ؛ وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ؛ وأنه لا يحرم بأثر رجعي ؛ فلا عقوبة إلا بنص ؛ سواء في الدنيا أو في الآخرة ؛ لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم ، وهي لم تحرم بعد ، ليس عليهم جناح ؛ فإنهم لم يتناولوا محرما ؛ ولم يرتكبوا معصية . . لقدكانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .

ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس : هل هو ناشى ء عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها ، أم إنه ناشى ء عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها . وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها ، أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم . . فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي ! . . والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم ، أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته ، أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ؛ والطاعة لأمره واجبة ، والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد : إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه ! ! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ؛ وما يراه علة قد لا يكون هو العلة . والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ ، سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها ، وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ؟

ونخلص من هذا إلى تركيب الآية ودلالة هذا التركيب :

( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) . .

ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إلية النفس في صياغة العبارة القرآنية على النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح ، ومرة مع الإيمان ، ومرة مع الإحسان . . كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما يستريح إليه نفسي الأن . . وأحسن ما قرأت - وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح - هو قاله ابن جرير الطبري : " الاتقاء الاول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل . والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل " . .

وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو : " إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال . فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى . ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية ، ومرة مع الإحسان - وهو العمل الصالح - في الثالثة . . ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى . ولابراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني . فالتقوى . . تلك الحساسية المرهفة برقابة الله ، والاتصال به في كل لحظة . والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه ، والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة . والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها . . هذه هي مناط الحكم ، لا الظواهر والأشكال . . وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان " .

وأنا ، اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا . . ولكنه لم يفتح علي بشيء آخر . . والله المستعان .