القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوَاْ إِذَا مَا اتّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمّ اتّقَواْ وّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ } . .
يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا إذ أنزل الله تحريم الخمر بقوله : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِر والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ : كيف بمن هلك من إخواننا وهمُ يشربونها وبنا وقد كنا نشربها : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ منكم حرج فيما شربوا من ذلك في الحال التي لم يكن الله تعالى حرّمه عليهم ، إذَا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : إذا ما اتقى الله الأحياء منهم ، فخافوه وراقبوه في اجتنابهم ما حرّم عليهم منه وصدّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهاهم ، فأطاعوهما في ذلك كله . وعَمِلُوا الصّالِحَاتِ يقول : واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربهم . ثُمّ اتّقَوْا وآمَنُوا يقول : ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه بعد ذلك التكليف أيضا ، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به ، ولم يغيروا ولم يبدّلوا . ثُمّ اتّقَوْا وأحْسَنُوا يقول : ثم خافوا الله ، فدعاهم خوفهم الله إلى الإحسان . وذلك الإحسان هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال ، ولكنه نوافل تقرّبوا بها إلى ربهم طلب رضاه وهربا من عقابه . وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ يقول : والله يحبّ المتقرّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها . فالاتقاء الأوّل : هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل والاتقاء الثاني : الاتقاء بالثبات على التصديق وترك التبديل والتغيير والاتقاء الثالث : هو الاتقاء بالإحسان والتقرب بنوافل الأعمال .
فإن قال قائل : ما الدليل على أن الاتقاء الثالث هو الاتقاء بالنوافل دون أن يكون ذلك بالفرائض ؟ قيل : إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إياها إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمها ، وصدّقوا الله ورسوله في تحريمها ، وعملوا الصالحات من الفرائض . ولا وجه لتكرير ذلك ، وقد مضى ذكره في آية واحدة .
وبنحو الذي قلنا من أن هذه الاية نزلت فيما ذكرنا أنها نزلت فيه ، جاءت الأخبار عن الصحابة والتابعين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السري وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : يا رسول الله ، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ . . . الاية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل بإسناده ، نحوه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثني عبد الكبير بن عبد المجيد ، قال : أخبرنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال : بينا أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجرّاح ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبي دجانة ، حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر ، فسمعنا مناديا ينادي : ألا إن الخمر قد حرّمت ، قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال . وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا ، فأصبنا من طيب أمّ سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ . فقال رجل : يا رسول الله ، فما منزلة من مات منا وهو يشربها ؟ فأنزل الله تعالى : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا . . . الاية . فقال رجل لقتادة : سمعته من أنس بن مالك ؟ قال : نعم ، وقال رجل لأنس بن مالك : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، وحدثني من لم يكذب ، والله ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : لما حرّمت الخمر قالوا : كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا . . . الاية .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : قال البراء : مات ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر ، فلما نزل تحريمها ، قال أناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فنزلت هذه الاية : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . . . الاية .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : نزلت : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا فيمن قُتل ببدر وأُحد مع محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قِيلَ لي أنْتَ مِنْهُمْ » .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا جامع بن حماد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا . . . إلى قوله : وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ ، لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في سورة المائدة بعد سورة الأحزاب ، قال في ذلك رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أُحد وهم يشربونها ، فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة ، فأنزل الله تعالى ذكره : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا إذَا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمّ اتّقَوْا وآمَنُوا ثُمّ اتّقَوْا وأحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ ، يقول : شربها القوم على تقوى من الله وإحسان وهي لهم يومئذٍ حلال ، ثم حرّمت بعدهم ، فلا جناح عليهم في ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا قالوا : يا رسول الله ، ما نقول لإخواننا الذين مضوا ، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ؟ فأنزل الله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا يعني قبل التحريم إذا كانوا محسنين متقين . وقال مرّة أخرى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا من الحرام قبل أن يحرّم عليهم إذا ما اتقوا وأحسنوا بعد ما حرّم وهو قوله : فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فانْتَهَى فَلَهُ ما سَلَفَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا يعني بذلك رجالاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرّم الخمر ، فلم يكن عليهم فيها جناح قبل أن تحرّم ، فلما حرّمت قالوا : كيف تكون علينا حراما وقد مات إخواننا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله تعالى لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُواإذا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرّمها إذا كانوا محسنين متقين ، والله يحب المحسنين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا لمن كان يشرب الخمر ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدر وأُحد .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ . . . الاية : هذا في شأن الخمر حين حُرّمت ، سألوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله هذه الاية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.