المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٞ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٞ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا} (73)

وقوله تعالى : { ولئن أصابكم فضل من الله } الآية ، المعنى ولئن ظفرتم وغنمتم وكل ذلك من فضل الله ، ندم المنافق إن لم يحضر ويصب الغنيمة ، وقال : { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً } متمنياً شيئاً قد كان عاهد أن يفعله ثم غدر في عهده ، لأن المؤمن إنما يتمنى مثل هذا إذا كان المانع له من الحضور عذراً واضحاً ، وأمراً لا قدرة له معه ، فهو يتأسف بعد ذلك على فوات الخير ، والمنافق يعاطي المؤمنين المودة ، ويعاهد على التزام كلف الإسلام ، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله ، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين ، فعلى هذا يجيء قوله تعالى : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } التفاتة بليغة ، واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم .

وحكى الطبري عن قتادة وابن جريج ، أنهما كانا يتأولان قول المنافق { يا ليتني كنت معهم } على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغيبة ، وقرأ الحسن { ليقولُن } بضم اللام على معنى «من » وضم اللام لتدل على الواو المحذوفة ، ويدل مجموع هاتين الآيتين على أن خارج المنافقين إنما كان يقصد الغنيمة ، ومتخلفهم إنما كان يقصد الشك وتربص الدوائر بالمؤمنين و { كأن } مضمنة معنى التشبيه ، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر وإنما تجيء بعدها الجمل{[4148]} ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص «تكن » بتاء ، وقرأ غيرهما «يكن » بياء ، وذلك حسن للفصل الواقع بين الفعل والفاعل ، وقوله : { فأفوز } نصب بالفاء في جواب التمني ، وقرأ الحسن ويزيد النحوي { فأفوز } بالرفع على القطع والاستئناف ، التقدير : فأنا أفوز : قال روح : لم يجعل ل «ليت » جواباً ، وقال الزجّاج : إن قوله : { كأن لم يكن بينكم وبينه مودة } مؤخر . وإنما موضعه فإن أصابتكم مصيبة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا ضعيف لأنه يفسد فصاحة الكلام .


[4148]:- يتمشى قول ابن عطية على مذهب الكوفيين، أما على مذهب البصريين فلا، وقد علق أبو حيان في "البحر المحيط" على كلام ابن عطية هذا فقال: "وهذا الذي ذكره غير محرر ولا على اطلاقه". وارجع إليه إن أردت البيان.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٞ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٞ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا} (73)

أكّد قوله : { ولئن أصابكم فضل من الله ليَقولنّ } ، باللام الموطّئة للقسم وبلام جواب القسم وبنون التوكيد ، تنبيهاً على غريب حالته حتّى ينزَّل سامعها منزلة المنكر لوقوع ذلك منه .

والمراد من الفضل الفتح والغنيمة . وهذا المبطّىء يتمنّى أن لو كان مع الجيش ليفوز فوزاً عظيماً ، وهو الفوز بالغنيمة والفوْز بأجر الجهاد ، حيث وقعت السلامة والفوز برضا الرسول ، ولذلك أتبع { أفوز } بالمصدر والوصف بعظيم . ووجه غريب حاله أنّه أصبح متلهّفاً على ما فاته بنفسه ، وأنّه يودّ أن تجري المقادير على وفق مراده ، فإذا قعَد عن الخروج لا يصيبُ المسلمين فضل من الله .

وجملة { كَأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة } معترضة بين فعل القول ومَقُولِه . والمودّة الصحبة والمحبّة ؛ وإمّا أن يكون إطلاق المودّة على سبيل الاستعارة الصورية إن كان المراد به المنافق ، وإمّا أن تكون حقيقة إن أريد ضعفة المؤمنين .

وشبّه حالهم في حين هذا القول بحال من لم تسبق بينه وبين المخاطبين مودّة حقيقية أو صوريّة ، فاقتضى التشبيه أنّه كان بينه وبينهم مودّة من قبل هذا القول .

ووجه هذا التشبيه أنّه لمّا تمنّى أن لو كان معهم وتحسّر على فوات فوزه لو حضر معهم ، كان حاله في تفريطه رفقتهم يشبه حال من لم يكن له اتّصال بهم بحيث لا يشهد ما أزمَعوا عليه من الخروج للجهاد ، فهذا التشبيه مسوق مساق زيادة تنديمه وتحسيره ، أي أنّه الذي أضاع على نفسه سببَ الانتفاع بما حصل لرفقته من الخير ، أي أنّه قد كان له من الخلطة مع الغانمين ما شأنه أن يكون سبباً في خروجه معهم ، وانتفاعه بثواب النصر وفخره ونعمة الغنيمة .

وقرأ الجمهور { لم يكن } بياء الغيبة وهو طريقة في إسناد الفعل لما لفظه مؤنّث غير حقيقيّ التأنيث ، مثل لفظ { مودَّة } هنا ، ولا سيما إذا كان فصْل بين الفعل وفاعله . وقرأ ابن كثير ، وحفص ، ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية علامة المضارع المسند إلى المؤنّث اعتباراً بتأنيث لفظ مودّة .