الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٞ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٞ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا} (73)

قوله تعالى : { لَيَقُولَنَّ } : الجمهورُ على فتحِ لام " ليقولَنَّ " لأنه فعل مسند إلى ضميرِ " مَنْ " مبنيُّ على الفتح لأجل نون التوكيد . وقرأ الحسن بضمها ، فأسند الفعل إلى ضمير " مَنْ " أيضاً لكنْ حملاً له على معناها ، والأصلُ : ليقولونَنَّ ، وقد تقدَّم تصريفه .

قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } هذه " كَأَنْ " المخففةُ من الثقيلة ، وعملُها باقٍ عند البصريين ، وزعم الكوفيون أنَّها حين تخفيفِها لا تعمل كما لا تعمل " لكن " مخففةً عند الجمهور ، وإعمالُها عند البصريين غالباً في ضمير الأمرِ والشأنِ وهو واجبُ الحذفِ ، ولا تعملُ عندَهم في ضميرٍ غيرِه ولا في اسمٍ ظاهرٍ إلا ضرورةً كقوله :

وصدرٍ مشرقِ النَّحْرِ *** كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ

وقول الآخر :

ويوماً تُوافينا بوجهٍ مُقَسَّمٍ *** كأنْ ظبيةٍ تَعْطُوا إلى وارِق السَّلَمْ

في إحدى الروايات ، وظاهرُ كلام سيبويه أنها تعمل في غير ضمير الشأن في غير الضرورة ، ونَصُّه يُطالَعُ في كتابه . والجملة المنفية بعدها في محلِّ رفع خبر لها ، والجملةُ بعدها إن كانت فعلية فَتُتَلَقَّى ب " قدر " كقوله :

لا يَهُولَنْكَ اصطلاُؤكَ للحَرْ *** بِ فمحذورُها كَأَنْ قد أَلَمَّا

أو ب " لم " كهذه الآيةِ ، وقولُه : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } [ يونس : 24 ] وقد تُلُقِّيَتْ ب " لَمَّا " في قولِ عَمَّارِ الكلبي :

بَدَّدَتْ منها الليالِي شَمْلَهمْ *** فكأنْ لمَّا يكونوا قبلُ ثَمّْ

قال الشيخ : " ويَحْتاج مثلُ هذا إلى سماعٍ من العَرَبِ " وقال ابن عطية : " و " كَأَنْ " مضمنةٌ معنى التشبيهِ ، ولكنها ليست كالثقيلة في الاحتياجِ إلى الاسمِ والخبرِ ، وإنما تَجِيءُ بعدَها الجملُ " وظاهرُ هذه العبارة أنها لا تعمل حين تخفيفِِها ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك قولُ الكوفيين لا البصريين ، ويُحْتمل أنه أراد بذلك أنَّ الجملةَ بعدها لا تتاثرُ بها لفظاً لأنَّ اسمَها محذوفٌ والجملةُ خبرٌ لها .

وقرأ ابن كثير وحفص " يَكُنْ " بالياءِ ، لأن المودة في معنى الودِّ ، ولأنه قد فُصِل بينها وبين فِعْلِها ، والباقون بالتاء اعتباراً بلفظِها . و " يكون " تحتمل أنْ تكونَ تامةً ، فيتعلق الظرفُ بها أو بمحذوف ؛ لأنه حالٌ من " مودة " إذ هو في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، وأَنْ تكونَ ناقصةً فيتعلَّقُ الظرفُ بمحذوفٍ على أنه خبرها .

واختلف الناسُ في هذه الجملةِ - على ثلاثةِ أقوال : الأول : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب اعتراضيةٌ ، وعلى هذا فما المُعْتَرَضُ بينهما ؟ وجهان الأول منهما : أنها معترضةٌ بين جملةِ الشرطِ التي هي " فإنْ أصابَتْكم " وبين جملةِ القسم التي هي " ولَئِنْ أصابَتْكم " والتقديرُ : " فإنْ أصابَتْكم مصيبةٌ قال : قد أَنْعَمَ اللَّهُ عليَّ إذ لم أَكُنْ معهم شهيداً ، كأَنْ لم تكن بينكم وبينه مودةٌ ، ولَئِنْ أصابكم فضلٌ ، فأُخِّرت الجملةُ المعتَرضُ بها أعني قولَه : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } والنيةُ بها التوسطُ ، وهذا قول الزجاج وتبعه الماتريدي .

وردَّ الراغب الأصبهاني هذا القول بأنه مستقبح / لأنه لا يُفْصَلُ بين بعضِ الجملة وبعضِ ما يتعلَّق بجملةٍ أخرى . قلت : هذا من الزجاج كأنه تفسير معنى لا إعراب ، يدل على ذلك ما أذكُره عنه من تفسير الإِعراب . الثاني من الوجهين : أن تكونَ معترضةً بين القولِ ومفعولِه ، والأصل : " ليقولَنَّ يا ليتني كنتُ معهم كأن لم تَكُنْ " وعلى هذا أكثر الناس ، ولكن اختلفَتْ عبارتُهم في ذلك ، ولا يظهر المعنى إلا بنقل نصوصِهم فَلْنَنْقلها . فقال الزمخشري : " اعتراضٌ بين الفعل الذي هو " ليقولَنَّ " وبين مفعولِه وهو " ياليتني " والمعنى : كأن لم يتقدم له معكم مودةٌ ؛ لأن المنافقين كانوا يُوادُّون المؤمنين في الظاهر ، وإن كانوا يبغون لهم الغوائلَ في الباطن ، والظاهر أنه تهكمُ لأنهم كانوا أَعْدَى عدوٍّ للمؤمنين وأشدَّهم حسداً لهم ، فيكف يُوصَفُون بالمودةِ إلا على وجه العكس والتهكم ؟ " وقال الزجاج : " هذه الجملةُ اعتراضٌ أخبرَ تعالى بذلك ؛ لأنهم كانوا يُوادُّون المؤمنينَ " وقال ابن عطية : " المنافِقُ يعاطِي المؤمنين المودةَ ويعاهِدُ على التزامِ كلفِ الإِسلام ، ثم يتخلَّفُ نِفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسولِه ، ثم يتمنَّى عندما ينكشِفُ الغَيْبُ الظفَر للمؤمنين ، فعلى هذا يجيء قولُه تعالى : { كَأَن لَّمْ تَكُن } التفاتةً بليغةً واعتراضاً بين القول والمقول بلفظٍ يُظْهِرُ زيادةً في قُبْحِ فِعْلِهم " . وقال الرازي : " هو اعتراض في غاية الحسنِ لأنَّ مَنْ أحبَّ إنساناً فَرِحَ لفرحِه وحزن لحزنه ، فإذا قلب القضية فذلك إظهارٌ للعداوةِ ، فحكى تعالى سرورَ المنافقِ عند نكبة المسلمين ، ثم أراد أن يَحْكِي حُزْنَه عند دَوْلِة المسلمين بسببِ فواتِه الغنيمَةَ ، فَقَبْلَ أن يَذْكُرَ الكلامَ بتمامِه ألقى قوله : " كأن لم تكن " والمراد التعجب ، كأنه يقول : انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق كَأَنْ لم تَكُنْ بينكم وبينه مودةٌ ولا مخالطةٌ أصلاً ، والذي حَسَّن الاعتراضَ بهذه الجملة - وإنْ كان محلُّها التأخيرَ - كونُ ما بعدها فاصلةً وهي ليست بفاصلة " وقال الفارسي : " هذه الجملة من قولِ المنافقين للذين أَقْعدوهم عن الجهادِ وخَرَجوا هم كأن لم تكن بينكم وبينه أي وبين الرسول عليه السلام [ مودةٌ ] فيُخْرِجَكم معه لتأخذوا من الغنيمة ، ليُبْغِضُوا بذلك الرسولَ إليهم " فأعاد الضميرَ في " بينه " على النبيّ عليه السلام .

وتبع الفارسي في ذلك مقاتلاً ، قال مقاتل : " معناه : كأنه ليس من أهل مِلَّتكم ولا مودةَ بينكم " يريد أن المبطئَ قال لِمَنْ تخلَّف عن الغزو من المنافقين وضَعَفَةِ المؤمنين ومَنْ تخلَّف بإذْن : كَأَنْ لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودةٌ فَيُخْرِجْكم إلى الجهادِ فتفوزا بما فاز .

الثاني : من الأقوال : أنها في محل نصب بالقول ، فيكون تعالى قد حكى بالقول جمليتن : جملةَ التشبيه وجملة التمني ، وهذا ظاهرٌ على قول مقاتل والفارسي حيث زعما أنَّ الضمير في " بينه " للرسول عليه السلام .

الثالث : انها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستتر في " ليقولَنَّ " كما تقول : " مررت بزيدٍ وكأَنْ لم يكنْ بينك وبينه معرفةٌ فضلاً عن مودةٍ " ونُقل هذا عن الزجاج ، وتبعه أبو البقاء في ذلك . وإنما أطلْتُ النفَسَ في هذه الآيةِ لأني رأيتُ أقوالَ الناسِ فيها منتشرةً فضَمَمْتُها .

و " يا " فيها قولان أحدُهما : - وهو قولُ الفارسيّ - أنها لمجردِ التنبيه فلا يُقَدَّر منادى محذوفٌ ، ولذلك باشَرَتِ الحرفَ . والثاني : أن المنادى محذوفٌ تقديرُه : يا هؤلاء ليتني ، وهذا الخلاف جارٍ فيها إذا باشرت حرفاً أو فعلاً ، كقراءة الكسائي : " ألا يا اسْجُدوا " وقوله :

ألا يا اسقياني قبل غارةِ سنجالِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله :

يا حبَّذا جَبَلُ الريَّانِ من جبلٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

على القول بفعليةِ " حَبَّذا " ولا يُفعل ذلك إلا ب " يا " خاصةً دونَ سائر حروفِ النداء لأنها أمُّ البابِ ، وقد كَثُرَتْ مباشرتُها ل " ليت " دونَ سائرِ الحروف .

قوله : { فَأَفُوزَ } الجمهور على نصبه في جواب التمني ، والكوفيون يزعمون نصبَه بالخلاف ، والجَرْميُّ يزعم نصبَه بنفسِ الفاء ، والصحيح الأول ، لأن الفاء تَعْطِفُ هذا المصدر المؤول مِنْ " أن " والفعلِ على مصدر متوهم ، لأن التقدير : يا ليت لي كوناً معهم أو مصاحبتَهم ففوزاً ، ولهذه المذاهبِ تصحيحاً وإبطالاً موضوعٌ غيرُ هذا قد نَبَّهْتُ عليه غيرَ مرةٍ . وقرأ الحسن " فأفوزُ " رفعاً على أحد وجهين : إمَّا الاستئنافِ أي : فأنا أفوزُ ، أو عطفاً على " كنت " فيكون داخلاً في حيِّز التمني أيضاً ، فيكون الكون معهم والفوزُ العظيم مُتَمَنَّيْن جميعاً .