{ ولئن أصابكم فضل من الله }{[56]} أي : ظَفَرٌ وغَنِيمة ، " ليقولن " هذا المنافق { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [ الآية ] الجمهور على فَتْح لاَمِ " ليقولن " لأنَّه فِعْل مُسْنَد إلى ضَمِير " من " مبني على الفَتْحِ لأجل نُون التَّوْكِيد ، وقرأ الحَسن{[57]} بِضَمِّها ، فأسْند الفِعْل إلى ضَمِير " من " أيضاً [ لكن ]{[58]} حملاً له على مَعْنَاها ؛ لأن قوله : " لمن ليبطئن " في معنى الجماعة والأصْلُ : لَيَقُولُونَنَّ وقد تقدَّم تَصْرِيفُه .
قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } هذه " كأن " المُخَفَّفَةُ [ من الثَّقيلَة ]{[59]} وعملُها باقٍ عند البَصْرِيِّين ، [ وزعم الكُوفيُّون أنها حين تَخْفِيفها لا تَعْمَل كما لا تعملُ " لَكن " مُخَفَّفَة عند الجُمْهُور ، وإعْمَالُها عند البَصْرِيِّين ]{[60]} غَالباً في ضَمِير الأمْرِ والشَّأن ، وهو وَاجِبُ الحَذْفِ{[61]} ، ولا تَعْمَل عِنْدَهُم في ضَمِير غَيْره ؛ ولا فِي اسْم ظَاهِر إلا ضَرُورةً ، كقوله : [ الهزج ]
وَصَدْرٍ مُشْرِقِ النَّحْر *** كَأنَّ ثَدْيَيْه حُقَّانِ{[62]}
وَيَوْمَاً تُوَافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ *** كأنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إلَى وَارِقِ السُّلَمْ{[63]}
في إحْدى الرِّوَايات ، وظَاهِرِ كلام سَيَبويْه{[64]} : أنَّها تَعْمَل في غير ضميرِ الشَّأنِ في غير الضَّرُورَة ، والجُمْلَة المنْفِيَّة بعدها في مَحَلِّ رَفع خَبَراً لَهَا ، والجملة بَعْدَهَا إن كانت فِعليَّة فتكون مُبْدوءَة بِ " قَدْ " ؛ كقوله : [ الخفيف ]
لا يَهُولَنَّكَ اصْطِلاؤُكَ{[65]} لِلْحَرْ *** بِ فَمَحْذُورُهَا كَأنْ قَدْ ألَمَّا{[66]}
أو ب " لَمْ " كهذه الآية ، وقوله : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } [ يونس : 24 ] وقد تُلُقِيتْ ب " لَمَّا " في قول عمَّار الكلبي : [ الرمل ]
بَدَّدَتْ مِنْهَا اللَِّيَالِي شَمْلَهُمْ *** فَكَأنْ لَمَّا يَكُونُوا قَبْلُ ثَمْ{[67]}
قال أبو حيَّان{[68]} : ويحتاج مِثْل هذا إلى سَمَاعِ من العَرَبِ ، وقال ابن عَطِيَّة{[69]} : " وكأن " مُضَمَّنة مَعْنَى التَّشْبيه ، ولكنها لَيْسَتْ كالثَّقِيلَةَ في الاحْتِيَاج إلى الاسْم والخَبَر ، وإنما تَجيءُ بعدها الجُمَل ، وظَاهِرِ هذه العِبَارَة : أنها لا تَعْمَلُ عند تَخْفِيفها ، وقد تقدَّم أن ذَلِك قَوْل الكُوفيين لا البَصْرِييِّن ، ويُحْتَمل أنه أراد بذلك أن الجُمْلَة بعدها لا تَتَأثَّر بها لَفْظاً ؛ لأن اسْمَهَا مَحْذُوف ، والجُمْلَة خَبَرُها .
وقرأ ابن كثير{[70]} ، وحفص من عاصم ، ويعقوب : [ يَكُنْ ] بالياء ؛ لأن المَوَدَّة في مَعْنَى الوُد{[71]} [ و ]{[72]} لأنه قد فُصِلَ بَيْنَها وبَيْن فِعْلِها ، والبَاقُون : بالتَّاء اعْتِبَاراً بلَفْظِها .
قال الواحدي : وكِلْتَا القراءَتَين قد جاءَ التَّنْزِيل به ؛ قال { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 57 ] وقال : { فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [ البقرة : 275 ] فالتأنيث هو الأصْلُ ، والتَّذْكِير يَحْسُن إذا كان التَّأنِيثُ غير حَقِيقيّ ، لا سيِّما إذا وقع فَاصِل بين الفِعْل والفَاعِل ، و " يكُون " يحتمل أن تكُون تَامَّةٌ ، فيتعلق الظَّرْفُ بها ، أو بِمَحْذُوفٍ ، لأنَّه حالٌ من " مودة " إذ هو في الأصْلِ صِفَة نكرة قُدِّم عليها ، وأن تكُون نَاقِصة ، فيتَعَلَّق الظَّرْف بمحذُوفٍ على أنه خَبرَهَا ، واخْتَلَفُوا في هَذِه الجُمْلَة على ثلاثةِ أقْوَالٍ :
الأوّل : أنها اعْتِرَاضيَّة لا مَحَلَّ لها من الإعْرَابِ ، وعلى هَذَا فما المُعْترض بَيْنَهما ؟ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهَا مُعْتَرِضَة بين جُمْلَة الشَّرْطِ التي هِيَ { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ } وبين جُمْلَة القَسَم التي هي " وَلَئِنْ أصَابَكُمْ " ، والتَّقْدير : { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } قال { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } كأن لم تكن بينكم [ وبينه مودة ، ولئن أصابكُم فَضْل . فأخرت الجُمْلَة المعترض بها أعني قوله ]{[73]} { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } والنية بها التوسط ، وهذا قول الزجاج وتبعه الماتُريدي ، وردَّ الرَّاغِب الأصْبَهاني هذا القَوْل بأنَّه مستَقْبَحٌ ، لأنه لا يَفْصِل بين بَعْض الجملة [ وبَعْض ]{[74]} ما يتعلَّق بِجُمْلة أخْرَى .
قال شهاب الدين : وهَذَا من الزَّجَّاج كأنه تَفْسِير مَعْنَى لا إعْرَاب ، على مَا يأتِي ذِكْرُه عَنْهُ في تفسير الإعْرَاب .
الوجه الثاني : أنها مُعْتَرِضَة بين القَوْل ومَفْعُوله ، والأصْل : ليقولنَّ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُم كأن لَمْ يكُن ، وعلى هذا أكثر النَّاسِ ، وقد اخْتَلَفَت عِبَاراتُهم في ذَلِك ، ولا يَظْهَرُ{[75]} المَعْنَى إلا بِنَقْل نصوصهم فَلْنَنْقُلْهَا .
فقال الزَّمَخْشَري : اعْتِرَاضٌ بين الفِعْلِ الَّذي هو " ليقولن " وبين مَفْعُولِهِ وهو " يا ليتني " والمعنى : كأنَّه لم يتقدم له مَعَكُم مَوَدَّة ؛ لأن المُنَافِقِين كانوا يُوَادُّون المؤمنين في الظَّاهِرِ ، وإن كَانُوا يَبْغُونَ لهم الغَوَائِل في البَاطِنِ ، والظَّاهر أنَّه تَهكُّم ؛ لأنهم كَانُوا أعْدَى عَدُوٍّ للمؤمِنِين ، وأشدَّهم حَسَداً لهم ، فكيف يُوصَفُون بالمَوَدَّة إلا على وَجْهِ العَكْسِ والتَّهَكُّم .
وقال الزَّجَّاج : هذه الجُمْلَة اعْتِرَاضٌ ، أخبر - تعالى - بذلك ؛ لأنَّهُم كانوا يُوادُّون المؤمنين .
وقال ابن عَطيّة{[76]} : المنافق يُعَاطِي المؤمنين{[77]} المَوَدَّة ، ويُعَاهِدُ على الْتِزَامٍ حِلْفِ الإسْلاَمِ ، ثم يَتَحلَّف نِفَاقاً وشَكّاً وكُفْراً باللَّه ورسُوله ، ثم يَتَمَنَّى عِنْدَما ينكشف الغَيْبُ الظَّفْر لَلمُؤمنين ، فعلى هذا يَجِيءُ قَوْلُه : " كأن لم يكن " التفاتة بليغَة ، واعْتِراضاً بين القَوْل والمَقُول بِلَفْظٍ يُظْهِر زيادَةً في قُبْحِ فِعْلِهِم .
وقال الرازي : هو اعْتِراضٌ في غاية الحُسْنِ ؛ لأن من أحَبَّ إنْسَاناً فَرح لِفَرَحِه ، وحَزِنَ لحُزْنِهِ ، فإذا قَلَبَ{[78]} القَضِيَّة فذلك إظْهَارٌ للعَدَاوَة ، فحكى - تعالى - سُرُور المُنَافِقِ{[79]} عند نَكْبَةِ المُسْلِمِين ، ثم أرَادَ أن يَحْكِي حُزْنه عِنْدَ دَوْلَة المسْلِمِينِ بسبب فَوَاته الغَنِيمَة فقَبْل أن يَذْكُرَ الكَلاَم بتَمَامِهِ ، ألْقَى قوله : { كَأَن{[80]} لَّمْ تَكُنْ } والمراد التَّعَجُّب ؛ كأنه يَقُول : انْظُرُوا إلى ما يَقُولُه هذا المُنَافِقُ كأن لَمْ تكن بَيْنَكُم وبَيْنَهُ مودَّة ولا مُخَالَطَة أصْلاً ، والذي حَسَّن الاعتراض بهذه الجُمْلَة وإنْ كان محلها التَّأخِير ، كوْنَ ما بَعْدَهَا فَاصِلَة وهيَ لَيْسَت بِفَاصِلَة .
وقال الفَارِسِي : وهذه الجمْلَة من قَوْل المُنَافِقِين للَّذِين أقْعَدُوهُم عن الجِهَادِ ؛ وخَرَجُوا هُمْ كأنْ لم تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْنَه أي : وبَيْن الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - مودَّة ، فيخرجكم مَعَهُ لتأخذوا من الغنيمة ليُبَغّضُوا بذلك الرَّسُولَ إليْهم ، فأعاد الضَّمِيرَ في " بَيْنَهُ " على النَّبي - عليه الصلاة والسلام - .
وتبع الفارسي في ذَلِكَ مُقَاتِلاً ؛ قال مقاتل : مَعْنَاه : كأنه لَيْسَ من أهل{[81]} [ مِلَّتكُم ]{[82]} ، ولا مودَّة بَيْنَكُم يريد : أن المبطّئ قَالَ لمن تَخَلَّفَ عن الغَزْوِ من المُنَافِقِين وضَعَفَة{[83]} المؤمنين : ومن تَخَلَّف بإذْنٍ كأن لَمْ تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْن مُحَمَّدٍ مودَّة ، فيُخْرِجَكُم إلى الجِهَادِ ، فَتَفُوزُوا بما فَازَ .
[ القول الثاني : إنها في مَحَلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ ، فيكون - تعالى - قد حَكَى بالقَوْلِ جملتين : جُمْلة التَّشْبيه ، وجملة التَّمَنِّي ، وهذا ظَاهِرٌ على قَوْلِ مُقاتِل والفَارسيٍّ : حيث زعَمَا أن الضَّمِير في " بَيْنَه " للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ]{[84]} .
القول الثالث : أنها في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من الضَّمِير المستَتِر في " ليقولن " كما تقول : مررْتُ بزَيْد وكأن لم يكن بينك وبينه معرفة فضلاً عن مودَّة ، ونقل هذا عن الزَّجَّاج ، وتَبِعَهُ أبو البَقاءِ في ذلك{[85]} .
أحدهما : وهُوَ قول الفَارسيِّ إنها لمُجَرد التَّنْبِيه ، فلا يقدَّر مُنادَى مَحْذُوف ، ولذلك باشَرَت الحَرْف .
والثاني : أن المُنَادَى مَحْذُوف ، تقديره : يا هؤلاء ، لَيْتَنِي ، وهذا الخلاف جَارٍ فيها إذا باشَرَت حَرْفاً أو فِعلاً ؛ كقراء الكسائيّ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } [ النمل : 25 ] وقوله : [ الطويل ]
ألاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَة سِنْجَال{[86]} *** . . . {[87]}
يا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ من جَبَلٍ *** . . . {[88]}
على القول بفعليّة " حَبَّذَا " ولا يُفعل ذَلِكَ إلاَّ ب " يَا " خَاصَّة ، دون سائر حُرُوف النِّدَاء ، لأنَّها أمُّ البَابِ ، وقد كثرت مُبَاشرَتُها ل " لَيْتَ " دون سَائِرِ الحُرُوف .
قوله : " فأفوز " الجمهور على نَصْبِه في جَوَاب التَّمَنِّي ، والكُوفِيُّون يزْعمون نصبه بالخلافِ ، والجرميّ يزعمُ نصبه بنفس الفَاءِ .
والصحيح الأوَّل ، لأن الفَاء تَعْطِف هذا المَصْدَر المؤوَّل من " أنْ " والفِعْل على مَصْدَر مُتوهَّم ، لأن التَّقْدِير : يا لَيْتَ لي كَوْنَاً معهم - أو مُصَاحَبَتهم - فَفَوْزاً{[89]} .
وقرأ{[90]} الحسن : فأفُوزُ رفعاً على [ أحدِ وجهيْن :
إما ]{[91]} الاستئناف ، أي : فأنا أفوزُ .
أو عَطْفاً على " كُنْتُ " {[92]} فيكون داخِلاً في{[93]} حَيِّز التَّمَني أيضاً ، فيكون الكَوْن معهُم ، والفَوْزُ العَظيم مُتَمنين جَميِعاً ، والمُرَاد بالفَوْزِ العظيم : النَّصِيب الوَافِرُ من الغَنِيمَة .