وقوله تعالى : { أم يحسدون الناس } الآية ، { أم } هذه على بابها ، لأن الاستفهام الذي في تقديرنا ، < بل لهم> قد تقدمها . واختلف المتأولون في المراد ب { الناس } في هذا الموضع ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك ، هو النبي عليه السلام ، والفضل النبوة فقط ، والمعنى فلمَ يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم في جميع ما آتيناهم من هذا وغيره من الملك ؟ وقال ابن عباس والسدي أيضاً : هو النبي صلى الله عليه وسلم ، والفضل ما أبيح له من النساء فقط ، وسبب الآية عندهم ، أن اليهود قالت لكفار العرب : انظروا إلى هذا الذي يقول : إنه بعث بالتواضع ، وإنه لا يملأ بطنه طعاماً ، ليس همه إلا في النساء ، ونحو هذا ، فنزلت الآية ، والمعنى فلمَ يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم ؟ صلى الله عليه وسلم يعني سليمان وداود عليهما السلام في أنهما أعطيا النبوة والكتاب ، وأعطيا مع ذلك ملكاً عظيماً ، في أمر النساء ، وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية ، ولداود مائة امرأة ، ونحو هذا من الأخبارالواردة في ذلك ، فالملك في هذا القول إباحة النساء ، كأنه المقصود أولاً بالذكر ، وقال قتادة : { الناس } في هذا الموضع : العرب ، حسدتها بنو إسرائيل في أن كان النبي عليه السلام منها ، «والفضل » على هذا التأويل : هو محمد عليه السلام ، فالمعنى : لم يحسدون العرب على هذا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوتي آل إبراهيم صلى الله عليه وسلم - وهم أسلافهم - أنبياء وكتباً ، كالتوراة والزبور ، { وحكمة } وهي الفهم في الدين وما يكون من الهدى مما لم ينص عليه الكتاب ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «نحن الناس » يريد قريشاً ، { وملكاً عظيماً } : أي ملك سليمان ، قاله ابن عباس : وقال مجاهد : الملك العظيم في الآية هو النبوة ، وقال همام بن الحارث وأبو مسلمة : هو التأييد بالملائكة .
قال القاضي أبو محمد : والأصوب أنه ملك سليمان أو أمر النساء في التأويل المتقدم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم يحسدون الناس}، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده، {على ما آتاهم الله من فضله}: ما أعطاهم من فضله، وذلك أن اليهود قالوا: انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام، ما له هم إلا النساء، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، فحسدوه على النبوة وعلى كثرة النساء، ولو كان نبيا ما رغب في النساء، يقول الله عز وجل: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة}، يعني النبوة، {وآتيناهم ملكا عظيما}، وكان يوسف منهم على مصر، وداود وسليمان منهم، فكيف تذكرون محمدا في تسع نسوة، ولا تذكرون داود وسليمان، عليهما السلام، فكان هؤلاء أكثر نساء. ومحمد أيضا من آل إبراهيم، وكان إبراهيم، ولوطا، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب، عليهم السلام، يعملون بما في صحف إبراهيم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ} أم يحسد هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود. وأما قوله: {النّاسَ} فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عنى الله به؛ فقال بعضهم: عنى الله بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم خاصة.
وقال آخرون: بل عَنَى الله به العربَ.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عاتب اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، فقال لهم في قيلهم للمشركين من عبدة الأوثان إنهم أهدى من محمد وأصحابه سبيلاً على علم منهم بأنهم في قيلهم ما قالوا من ذلك كذبة: أم يحسدون محمدا وأصحابه على آتاهم الله من فضله.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن ما قبل قوله: {أم يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ} مضى بذمّ القائلين من اليهود للذين كفروا: {هَؤُلاء أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}، فإلحاق قوله: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ} بذمهم على ذلك، وتقريظ الذين آمنوا الذين قيل فيهم ما قيل أشبه وأولى، ما لم يأت دلالة على انصراف معناه عن معنى ذلك.
واختلف أهل التأويل في تأويل الفضل الذي أخبر الله أنه آتى الذين ذكرهم في قوله: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ}؛ فقال بعضهم: ذلك الفضل هو النبوّة. حسدوا هذا الحيّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله، بعث الله منهم نبيا فحسدوهم على ذلك.
وقال آخرون: بل ذلك الفضل الذي ذكر الله أنه آتاهموه: هو إباحته ما أباح لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من النساء، ينكح منهنّ ما شاء بغير عدد. قالوا: وإنما يعني بالناس: محمدا صلى الله عليه وسلم على ما ذكرت قبل. وذلك أن أهل الكتاب قالوا: زعم محمد أنه أُوتي ما أُوتي في تواضع وله تسع نسوة، ليس همه إلا النكاح، فأيّ ملك أفضل من هذا؟ فقال الله: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب أن معنى الفضل في هذا الموضع النبوّة التي فضل الله بها محمدا، وشرّف بها العرب إذ آتاها رجلاً منهم دون غيرهم، لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية تدلّ على أنها تقريظ للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، على ما قد بينا قبل، وليس النكاح وتزويج النساء، وإن كان من فضل الله جلّ ثناؤه الذي آتاه عباده بتقريظ لهم ومدح.
{فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْرَاهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما}: أم يحسد هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، الناسَ على ما آتاهم الله من فضله، من أجل أنهم ليسوا منهم، فكيف لا يحسدون آل إبراهيم، فقد آتيناهم الكتاب؟ ويعني بقوله: {فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْرَاهِيمَ}: فقد أعطينا آل إبراهيم، يعني: أهله وأتباعه على دينه، {الكِتَابَ}: كتاب الله الذي أوحاه إليهم، وذلك كصحف إبراهيم وموسى والزبور، وسائر ما آتاهم من الكتب. وأما "الحكمة"، فما أوحى إليهم مما لم يكن كتابا مقروءا.
{وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما}. واختلف أهل التأويل في معنى المُلْكِ العظيم الذي عناه الله في هذه الآية؛ فقال بعضهم: هو النبوّة.
وقال آخرون: بل ذلك تحليل النساء¹؛ قالوا: وإنما عنى الله بذلك: أم يحسدون محمدا على ما أحلّ الله له من النساء، فقد أحلّ الله مثل الذي أحله له منهنّ لداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، فكيف لم يحسدوهم على ذلك وحسدوا محمدا عليه الصلاة والسلام؟ وقال آخرون: بل معنى قوله: {وآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما} الذي آتى سليمان بن داود. وقال آخرون: بل كانوا أُيّدُوا بالملائكة والجنود.
وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَي، وهي قوله: {وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما} أنه: يعني: ملك سليمان، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، دون الذي قال: إنه ملك النُبوّة، ودون قول من قال: إنه تحليل النساء والملك عليهنّ. لأن كلام الله الذي خوطب به العرب غير جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالة أو تقوم حجة على أن ذلك بخلاف ذلك يجب التسليم لها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَمْ يَحْسُدُونَ الناس}: بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، على إنكار الحسد واستقباحه. وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة وازدياد العزّ والتقدم كل يوم. {فَقَدْ ءاتَيْنَا} إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة {ءَالَ إبراهيم} الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما آتى أسلافه.
اعلم أنه إنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس، لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا صلى الله عليه وسلم ومن كان على دينه كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس، فلهذا حسن إطلاق لفظ الناس وإرادتهم على التعيين...
واعلم أن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة، فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين، ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وضم إليها إنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا وكل ذلك مما يوجب الحسد العظيم. فأما كثرة النساء فهو كالأمر الحقير بالنسبة إلى ما ذكرناه، فلا يمكن تفسير هذا الفضل به، بل إن جعل الفضل اسما لجميع ما أنعم الله تعالى به عليه دخل هذا أيضا تحته، فأما على سبيل القصر عليه فبعيد...
واعلم أن {الكتاب} إشارة إلى ظواهر الشريعة {والحكمة} إشارة إلى أسرار الحقيقة، وذلك هو كمال العلم، وأما الملك العظيم فهو كمال القدرة. وقد ثبت أن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة، فهذا الكلام تنبيه على أنه سبحانه آتاهم أقصى ما يليق بالإنسان من الكمالات، ولما لم يكن ذلك مستبعدا فيهم لا يكون مستبعدا في حق محمد صلى الله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أم} أي ليس لهم نصيب ما من الملك، بل ذلهم لازم وصغارهم أبداً كائن دائم، فهم {يحسدون الناس} أي محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جمع فضائل الناس كلهم من الأولين والآخرين وزاد عليهم ما شاء الله، أو العرب الذي لا ناس الآن غيرهم، لأنَّا فضلناهم على العالمين -بأن يتمنوا دوام ذلهم كما دام لهم هم، ودل على نهاية حسدهم بأداة الاستعلاء في قوله: {على ما آتاهم الله} أي بما له من صفات الكمال {من فضله} حسدوهم لما رأوا من إقبال جدهم وظهور سعدهم وأنهم سادة الناس وقادة أهل الندى والبأس.
وقد آتاهم الله سبحانه وتعالى جميع أنواع الملك، فإنه على ثلاثة أقسام: ملك على الظواهر والبواطن معاً، وهو للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لهم من غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة والشفاعة والبر واللطف التي كل منها سبب للانقياد، وذلك مع ما لهم بالله سبحانه وتعالى من تمام الوصلة؛ وملك على الظواهر فقط، وهو ملك الملوك؛ وملك على البواطن فقط، وهو ملك العلماء.
ولما ذمهم سبحانه وتعالى أولاً بالجهل ومدح النفس تشبعاً بما لم يعطوا، وذلك سبب لجميع النقائص، وثانياً بأعظم منه: منع الحق من أهله بخلاً، وثالثاً بأعظم منهما: تمنى ألا يصل إلى أحد نعمة وإن كانت لا تنقصهم، فحازوا بذلك أعلى خلال الذم، وكانت المساوي تضع والمحاسن ترفع، تسبب عن هذا توقع السامع لإعلاء العرب وإدامة ذل اليهود وموتهم بحسدهم فقال: {فقد} أي فتسبب عن هذا وتعقبه أنَّا آتيناهم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر للتنبيه على التوصيف الذي شاركوهم به في استحقاق الفضائل فقال: {آتينا} أي بما لنا من العظمة {آل إبراهيم} أي الذي أعلمناكم في كتابكم أنا أقسمنا له أنَّا نعز ذريته ونهديهم ونجعل ابنه إسماعيل حالاً على جميع حدود إخوته، ويده في جميع الناس ويده على كل أحد ويد كل به {الكتاب} أي الذي لا كتاب إلا هو لما له من الحفظ والفضل بالإعجاز والفصل {والحكمة} أي النبوة التي ثمرتها العمل المتقن بالعلم المحرر المحكم {وآتيناهم} مع ذلك {ملكاً عظيماً} أي ضخماً واسعاً باقياً إلى أن تقوم الساعة {فمنهم} أي من آل إبراهيم {من آمن به} وهم أغلب العرب {ومنهم من صد عنه} أي أعرض بنفسه، وصد غيره كبني إسرائيل وبعض العرب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
سبق في الآيات قبل هذه أن اليهود حكموا بأن المشركين أهدى سبيلا من المؤمنين وذلك من الحسد والغرور بأنفسهم فإنهم يقولون ذلك مع أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت فهم في شر حال، ويعيبون من هم في أحسن حال، فالله تعالى يقول إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل الله بعباده ولا يحبون أن يكون لأمة من الأمم فضل أكثر مما لهم أو مثله أو قريبا منه لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم فكأنه قال هل غرر هؤلاء بأنفسهم تغريرا، أم لهم نصيب من الملك في هذا الكون فهم يمنعون الناس فلا يؤتونهم منه نقيرا، أم يحسدون الناس على ما أعطاهم الله من فضله، أي العرب.
{فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده إسماعيل وقد كانت ظهرت تباشير الملك العظيم فيهم عند نزول هذه الآيات فإنها مدنية متأخرة وكانت شوكة المسلمين قد قويت فالآية مبشرة لهم بالملك الذي يتبع النبوة والحكمة، والحاصل أن حال اليهود يومئذ كان لا يعدو هذه الأمور الثلاثة: إما غرور خادع يظنون معه أن فضل الله محصور فيهم، ورحمته تضيق عن غير شعب إسرائيل من خلقه، وإما حسبان أن ملك الكون في أيديهم فهم لا يسمحون لأحد بشيء منه ولو حقيرا كالنقير، وإما حسد العرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادي عظمته.
وأقول: فسروا الحسد بأنه تمني زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها ولم يرد ذكره في القرآن إلا في هذه الآية وفي قوله في سورة البقرة: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} [البقرة:108] وفي سورة الفلق، وأهل الكتاب في آية البقرة هم اليهود فهو لم يسند الحسد إلى غيرهم لأنهم وقد سلب منهم الملك يتمنون عودته إليهم، وقد كبر عليهم أن تسبقهم العرب إلى ذلك ولم يكن النصارى يومئذ يحسدون المسلمين، لأنهم متمتعون بملك واسع، ولا مشركو العرب لأنهم ما كانوا يظنون أن النبوة التي قام بها واحد منهم حق ولا أنها تستتبع ملكا، فإن من ظهر له حقية الدعوة صار مسلما، وأما اليهود فإنه لم يؤمن ممن ظهرت لهم حقية دعوة الإسلام إلا نفر قليل ومنع الحسد باقي الرؤساء أن يؤمنوا وتبعهم العامة تقليدا لهم، وقلما يمنع الناس من اتباع الحق بعد ظهوره لهم مثل الحسد والكبر، فالحسود يؤثر هلاك نفسه على انقيادها لمن يحسده، لأن الحسد يفسد الطباع. وفي التفسير المأثور أن المراد بالناس هنا النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أنهم حسدوه وحسدوا قومه العرب لأنه منهم وهم أسبق إلى الخير الذي جاء به.
ورد في بعض أسباب نزول الآية أن بعض اليهود ككعب بن الأشرف لم يجدوا مطعنا يقولونه في النبي صلى الله عليه وسلم إلا تعدد أزواجه، وقيل حسدوه على ذلك والآية ترد هذه الشبهة، لأن بعض أنبيائهم كداود وسليمان كان لهم أزواج كثيرة، كما رد عليهم استبعادهم أن يكون الملك في غير آل إسرائيل بأنه تعالى أعطى آل إبراهيم من ذرية إسحاق الكتاب والحكمة والنبوة فضلا منه من غير أن يكون لهم حق عليه تعالى، فكذلك يعطي ذلك لآله من ذرية إسماعيل ولا حجر على فضله. فإن كان هذا الفضل الإلهي لا يناله إلا من له سلف فيه فللعرب هذا السلف، على أن هذه الدعوى باطلة، وإلا كانت هذه العطايا قديمة أزلية وليس الإنسان قديما أزليا ولو كان أزليا لما أمكن أن تكون بعض فروعه أزلية، فإيتاء الله تعالى بعض البشر الفضل إما أن يكون بمحض الاختصاص والاختيار وذلك موكول إلى مشيئته عز وجل، وإما أن يكون لمزايا وفضائل فيمن يعطيه ذلك، وحينئذ يكون كل من يكتسب مثل تلك المزايا مستحقا لهذا الفضل والنبوة ومقدماتها بمحض الاختصاص.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكا عظيما) أم لعله حسد.. حسد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ما آتاهم الله من فضله.. من هذا الدين الذي أنشأهم نشأة أخرى ووهب لهم ميلادا جديدا، وجعل لهم وجودا إنسانيا متميزا؛ ووهبهم النور والثقة والطمأنينة واليقين؛ كما وهبهم النظافة والطهر، مع العز والتمكين؟ وإنه فعلا للحسد من يهود. مع تفويت أطماعها في السيادة الأدبية والاقتصادية على العرب الجاهلين المتفرقين المتخاصمين.. يوم أن لم يكن لهم دين.. ولكن لماذا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والتمكين في الأرض؟ وهم غارقون في فضل الله من عهد إبراهيم.. الذي آتاه الله وآله الكتاب والحكمة -وهي النبوة- وآتاهم الملك كذلك والسيادة. وهم لم يرعوا الفضل ولم يحتفظوا بالنعمة، ولم يصونوا العهد القديم، بل كان منهم فريق من غير المؤمنين. ومن يؤت هذا الفضل كله لا يليق أن يكون منهم جاحدون كافرون! (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما. فمنهم من آمن به، ومنهم من صد عنه). إنه لمن ألأم الحسد: أن يحسد ذو النعمة الموهوب! لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة! أما أن يحسد الواجد المغمور بالنعمة، فهذا هو الشر الأصيل العميق! شر يهود! المتميز الفريد!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الآية موصولة بما قبلها، فالحديث في اليهود الذين ذهب بهم حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن يقولوا وهم أهل الكتاب نزل عليهم من السماء وإن حرفوه، إن المشركين أهدى إلى الحق وإلى الصراط المستقيم من المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين من بعده. وفي هذه الآية يبين سبب انحرافهم، وجزاء الضالين يوم القيامة، ثم جزاء المهتدين. والسبب الباعث على ضلالهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولذا قال سبحانه: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} الحسد هو الألم الشديد لما يصيب الناس من خير، وتمني زواله، ثم العمل على زواله، فهو يبتدئ بألم شديد يحز بالنفس الحاسدة، ثم يصحبه تمني الزوال، ثم يكون بعد ذلك بخس المحسود حظه وحقه، والنيل منه! والفرق بينه وبين الغبطة أن الغبطة السرور بما ينال الغير من خير، وذلك وصف أهل الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"المؤمن يغبط والمنافق يحسد" والحسد يذيب النفس ويذهب بفضائلها، ولقد قال الحسن البصري: "ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد "وإن من يحسد إنما يعادي الله ويعادي نعمه، لأنه كلما آتى الله أحدا نعمة نقمها على صاحبها، فكأنما يعادي الله الذي أعطاها، ويعاديها، ولقد قال عبد الله بن مسعود: (لا تعادوا نعم الله! قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).
والناس هنا في النص الكريم، قيل العرب وعندي أنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إن أريد التخصيص، وإن كان التعميم فهي على عمومها. وأولئك اليهود قد أسكن الله تعالى قلوبهم حسدا على الناس، فهم إذا حسدوا النبي والمؤمنين، فلأنهم ناس أتاهم الله تعالى جزءا من فضله، فإن فضله عظيم، ف"من" هنا للبعضية، أو نقول إنها بيانية، فقد كان الإيتاء صادرا عن فضله ومجرد تكرمه. وفي هذا إشارة إلى الذين يحسدون من يتكرم عليه الله، فإنما يعاندون الله تعالى. وسبب هذا الحسد الدائم فيهم أنهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم اختصوا بالنبوة دون غيرهم من الناس، وقد بين الله سبحانه أن ذلك وهم، فقال تعالت كلماته:
{فلقد آتينا إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} أي إذا كنتم تحسدون الناس لما توهمتم أن النبوة فيكم، وأنكم أهل الوحي دون غيركم، فقد كذبتم على أنفسكم، فإن الله تعالى قد أعطى آل إبراهيم، أي قرابته القريبة من ذريته من إسماعيل وإسحق الكتاب، أي بعث فيهم النبيين بالكتب من غير تفرقة. والحكمة أي العلم النافع الذي يصحبه عمل نافع و إصلاح بين الناس، وأعطاهم مع علم النبوة ومع نشر أحكامها ملكا عظيما، أي سلطانا وبسطة في الأرض فلستم مختصين بالنبوة، ولستم مختصين بإبراهيم، فله قرابة غيركم كانوا في العرب، ولم يكن تلقى الناس لذلك الهدى ولهذا السلطان واحدا: {فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا}.