مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا} (54)

قوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا } .

فيه مسائل :

المسألة الأولى : أم : منقطعة ، والتقدير بل يحسدون الناس .

المسألة الثانية : في المراد بلفظ «الناس » قولان : الأول : وهو قول ابن عباس والأكثرين أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا في الجمع العظيم ، ومن هذا يقال : فلان أمة وحده ، أي يقوم مقام أمة ، قال تعالى : { إن إبراهيم كان أمة قانتا } .

والقول الثاني : المراد ههنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين ، وقال من ذهب إلى هذا القول : أن لفظ الناس جمع ، فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد .

واعلم أنه إنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس ، لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية ، كما قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا صلى الله عليه وسلم ومن كان على دينه كان وهو وأصحابه كأنهم كل الناس ، فلهذا حسن إطلاق لفظ الناس وإرادتهم على التعيين :

المسألة الثالثة : اختلفوا في تفسير الفضل الذي لأجله صاروا محسودين على قولين :

فالقول الأول : أنه هو النبوة والكرامة الحاصلة بسببها في الدين والدنيا .

والقول الثاني : أنهم حسدوه على أنه كان له من الزوجات تسع .

واعلم أن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة ، فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم ، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين ، ثم أنه تعالى أعطاها لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وضم إليها إنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا وكل ذلك مما يوجب الحسد العظيم . فأما كثرة النساء فهو كالأمر الحقير بالنسبة إلى ما ذكرناه ، فلا يمكن تفسير هذا الفضل به ، بل إن جعل الفضل اسما لجميع ما أنعم الله تعالى به عليه دخل هذا أيضا تحته ، فأما على سبيل القصر عليه فبعيد .

واعلم أنه تعالى لما بين أن كثرة نعم الله عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهوديين ما يدفع ذلك فقال : { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } والمعنى أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك ، وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونه ، فلم تتعجبون من حال محمد ولم تحسدونه ؟

واعلم أن { الكتاب } إشارة إلى ظواهر الشريعة { والحكمة } إشارة إلى أسرار الحقيقة ، وذلك هو كمال العلم ، وأما الملك العظيم فهو كمال القدرة . وقد ثبت أن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة ، فهذا الكلام تنبيه على أنه سبحانه آتاهم أقصى ما يليق بالإنسان من الكمالات ، ولما لم يكن ذلك مستبعدا فيهم لا يكون مستبعدا في حق محمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : إنهم لما استكثروا نساءه قيل لهم : كيف استكثرتهم له التسع ، وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلثمائة بالمهر وسبعمائة سرية ؟