محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا} (54)

( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما54 ) .

( أم يحسدون الناس ) منقطعة أيضا مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق ، أعني البخل ، إلى توبيخهم بالحسد . وهما شر الرذائل كما قدمنا . وكأن بينهما تلازما وتجاذبا . واللام في ( الناس ) للعهد والإشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .

وروى الطبراني بسنده عن ابن عباس في هذه الآية قال : " نحن الناس دون الناس " . والهمزة لانكار الواقع واستقباحه .

/ قال الرازي : وانما حسن ذكر الناس لارادة طائفة معينة من الناس . لأن المقصود من الخلق انما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى{[1896]} : ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) . فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا صلى الله عليه وسلم ومن كان على دينه – كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس . فلهذا حسن إطلاق لفظ ( الناس ) وإرادتهم على التعيين ( على ما آتاهم الله من فضله ) وهو النبوة والكتاب والرشد وازدياد العز والنصر يوما فيوما . وقوله تعالى : ( فقد آتينا ) تعليل للانكار والاستقباح والزام لهم بما هو مسلم عندهم . وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم ، المبنيين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتي من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابرا عن كابر واجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لاظهار كمال العناية بالأمر . والمعنى : أن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان . فانا قد آتينا من قبل هذا ( آل ابراهيم ) الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم وأبناء أعمامه ( الكتاب والحكمة ) النبوة ( وآتيناهم ملكا عظيما ) لا يقادر قدره . فكيف يستبعدون نبوته ويحسدونه على ايتائها ؟ أفاده أبو السعود .

قال الرازي : ان الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة . فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم . ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين . ثم انه تعالى أعطاها لمحمد صلى الله عليه وسلم وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا . فلما كانت هذه النعم سببا لحسد هؤلاء ، بين تعالى ما يدفع ذلك فقال : ( فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) . والمعنى : أنه حصل في أولاد ابراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونهم . فلم تتعجبون من حال محمد صلى الله عليه وسلم ولم تحسدونه ؟


[1896]:|51/ الذاريات/ 56|.