والمعنى : { وما لكم لا تنفقوا في سبيل الله } وأنتم تموتون وتتركون أموالكم ، فناب مناب هذا القول قوله : { ولله ميراث السماوات والأرض } ، وفيه زيادة تذكير بالله وعبرة ، وعنه يلزم القول الذي قدرناه .
وقوله تعالى : { لا يستوي منكم } الآية ، روي أنها نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة أنفقت نفقات كثيرة حتى قال ناس : هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق قديماً ، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل الفتح أعظم أجراً .
وهذا التأويل على أن الآية نزلت بعد الفتح ، وقد قيل إنها نزلت قبل الفتح تحريضاً على الإنفاق ، والأول أشهر وحكى الثعلبي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي ونفقاته{[10955]} ، وفي معناه قول النبي عليه السلام لخالد بن الوليد : «اتركوا لي أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه »{[10956]} .
واختلف الناس في { الفتح } المشار إليه في هذه الآية . فقال أبو سعيد الخدري والشعبي : هو فتح الحديبية . وقد تقدم في سورة «الفتح » تقرير كونه فتحاً ، ورفعه أبو سعيد الخدري إلى النبي عليه السلام أن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبية{[10957]} . وقال قتادة ومجاهد وزيد بن أسلم : هو فتح مكة الذي أزال الهجرة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو المشهور الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية »{[10958]} ، وقال له رجل بعد فتح مكة : أبايعك على الهجرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الهجرة قد ذهبت بما فيها » . ( وإن الهجرة شأنها شديد ، ولكن أبايعك على الجهاد ){[10959]} ، وحكم الآية باق غابر الدهر من أنفق في وقت حاجة السبيل أعظم أجراً ممن أنفق مع استغناء السبيل .
وأكثر المفسرين على أن قوله : { يستوي } مسند إلى { من } ، وترك ذكر المعادل الذي لا يستوي معه ، لأن قوله تعالى : { من الذين أنفقوا من بعد } قد فسره وبينه . ويحتمل أن يكون فاعل { يستوي } محذوفاً تقديره : لا يستوي منكم الإنفاق ، ويؤيد ذلك أن ذكره قد تقدم في قوله : { وما لكم ألا تنفقوا } ويكون قوله : { من } ابتداء وخبره الجملة الآتية بعد{[10960]} .
وقرأ جمهور السبعة : «وكلاً وعد الله الحسنى » وهي الوجه ، لأن وعد الله ليس يعوقه عائق على أن ينصب المفعول المقدم . وقرأ ابن عامر : «وكل وعد الله الحسنى » ، فأما سيبويه رحمه الله فقدر الفعل خبر الابتداء ، وفيه ضمير عائد وحذفه عنده قبيح لا يجري إلا في شعر ونحوه ، ومنه قول الشاعر [ جرير بن عطية ] : [ الرجز ]
قد أصبحت أم الخيار تدعي . . . عليّ ذنباً كله لم أصنع{[10961]}
قال : ولكن حملوا الخبر على الصفات كقول جرير : [ الوافر ]
وما شيء حميت بمستباح . . . {[10962]}
وعلى الصلات كقوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولاً }{[10963]} [ الفرقان : 41 ] وذهب غير سيبويه إلى أن { وعد } في موضع الصفة ، كأنه قال : «أولئك كل وعد الله الحسنى » ، وصاحب هذا المذهب حصل في هذا التعسف في المعنى فراراً من حذف الضمير في خبر المبتدأ . و : { الحسنى } الجنة ، قاله مجاهد وقتادة ، والوعد يتضمن ما قبل الجنة من نصر وغنيمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} يعني في طاعة الله إن كنتم مؤمنين، فأنفقوا في سبيل الله، فإن بخلتم، فإن الله يرثكم ويرث أهل السماوات والأرض، فذلك قوله: {ولله ميراث السماوات والأرض} يفنون كلهم، ويبقى الرب تعالى وحده، فالعباد يرث بعضهم بعضا، والرب يبقى فيرثهم، قوله: {لا يستوي منكم} في الفضل والسابقة {من أنفق من} ماله {قبل الفتح} فتح مكة {وقاتل} العدو، {أولئك أعظم درجة} يعني جزاء {من الذين أنفقوا من بعد} بعد فتح مكة {وقاتلوا} العدو {وكلا وعد الله الحسنى} يعني الجنة، يعني كلا الفريقين وعد الله الجنة {والله بما تعملون خبير} بما أنفقتم من أموالكم، وهو مولاكم يعني وليكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما لكم أيها الناس لا تنفقوا مما رزقكم الله في سبيل الله وإلى الله صائرٌ أموالكم إن لم تنفقوها في حياتكم في سبيل الله، لأن له ميراث السموات والأرض، وإنما حثهم جلّ ثناؤه بذلك على حظهم، فقال لهم: أنفقوا أموالكم في سبيل الله، ليكون ذلكم لكم ذخرا عند الله من قبل أن تموتوا، فلا تقدروا على ذلك، وتصير الأموال ميراثا لمن له السموات والأرض.
وقوله:"لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْح وَقاتَلَ"...
عن قتادة، قوله: "لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدِ وَقاتَلُوا وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى "قال: كان قتالان، أحدهما أفضل من الاَخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كانت النفقة والقتال من قبل الفتح «فتح مكة» أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك...
وقال آخرون: عني بالفتح في هذا الموضع: صلح الحديبية...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: معنى ذلك لا يستوي منكم أيها الناس من أنفق في سبيل الله من قبل فتح الحُدَيبية... وقاتل المشركين بمن أنفق بعد ذلك، وقاتل وترك ذكر من أنفق بعد ذلك، وقاتل استغناء بدلالة الكلام الذي ذُكر عليه من ذكره "أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل الله من قبل فتح الحديبية، وقاتلوا المشركين أعظم درجة في الجنة عند الله من الذين أنفقوا من بعد ذلك، وقاتلوا.
وقوله: "وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى" يقول تعالى ذكره: وكلّ هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله، وقتالهم أعداءه...
وقوله: "وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون من النفقة في سبيل الله، وقتال أعدائه، وغير ذلك من أعمالكم التي تعملون، خبير لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميع ذلك يوم القيامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {لا يستوي منكم من أنفق} أي لا يستوي منكم من آمن من قبل الفتح، لأنه قبل الفتح كان على من آمن الهلاك وأنواع العقوبات، لأن الغلبة في ذلك الوقت كانت لأهل الكفر. لذلك لم يستو من آمن منهم قبل الفتح ومن آمن منهم بعد الفتح... وكذلك الإنفاق في ذلك الوقت أفضل وأعظم لما في الإنفاق في ذلك الوقت معونة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن تابعه، أو لما أن الإنفاق من بعد الفتح يقع به طمع الوصول إلى المنافع و الأبدال من الصدقات والمغانم، وقبل الفتح لم يكن ذلك المعنى؛ فهو كله خالص بلا بدل ولا طمع كان معه، والله أعلم... وقوله تعالى: {والله بما تعملون خبير} فيه ترغيب وترهيب في ما يرغب فيه ويرغب عنه.
أبان عن فضيلة الإنفاق قبل الفتح على ما بَعْدَهُ لعِظَمِ عناء النفقة فيه وكثرة الانتفاع به؛ ولأن الإنفاق في ذلك الوقت كان أشدّ على النفس لقلة المسلمين وكثرة الكفار مع شدة المحنة والبلاء وللسبق إلى الطاعة، ألا ترى إلى قوله: {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} [التوبة: 117] وقوله: {والسابقون الأولون} [التوبة: 10]؟ فهذه الوجوه كلها تقتضي تفضيلها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله " استبطأهم في الإنفاق في سبيل الله الذي رغبهم بالإنفاق فيها...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
{لاَ يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ} ودل به على أن فضيلة العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ} في أن لا تنفقوا... {أولئك} الذي أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه".
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لا يستوي منكم} الآية، روي أنها نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة أنفقت نفقات كثيرة حتى قال ناس: هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق قديماً، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل الفتح أعظم أجراً.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما} أي وأيّ شيء يحصل {لكم} في {ألا تنفقوا} أي توجدوا الإخراج للمال {في سبيل الله} أي في كل ما يرضي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لتكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة، فإنه ما بخل به أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شر،ولما كان المراد بالإيمان خدمة الرحمة، وكان الإنفاق وإن كان مصدقاً للإيمان لا يكمل تصديقه إلا ببذل النفس قال: {وقاتل} أي سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به،ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة السابقين...
. {الحسنى} أي الدرجة التي هي غاية الحسن وإن كانت في نفسها متفاوتة. {خبير} أي عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه، فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض؟) ولقد بذلت الحفنة المصطفاة من السابقين، من المهاجرين والأنصار، ما وسعها من النفس والمال، في ساعة العسرة وفترة الشدة -قبل الفتح- فتح مكة أو فتح الحديبية وكلاهما اعتز به الإسلام أيام أن كان الإسلام غريبا محاصرا من كل جانب، مطاردا من كل عدو، قليل الأنصار والأعوان...
(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل. أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا).. (والله بما تعملون خبير).. وهي لمسة موقظة للقلوب، في عالم النوايا المضمرة وراء الأعمال الظاهرة، وهي التي تناط بها القيم، وترجح بها الموازين..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الإِنفاق في سبيل الله بمعناه المشهور وهو الإِنفاق في عتاد الجهاد لم يكن إلا بعد الهجرة فإن سبيل الله غلب في القرآن إطلاقه على الجهاد ويؤيده قوله عقبه: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح}، لأن الأصل أن يكون ذلك متصلاً نزوله مع هذا ولو حمل الإِنفاق على معنى الصدقات لكان مقتضياً أنها مدنية لأن الإِنفاق بهذا المعنى لا يطلق إلا على الصدقة على المؤمنين فلا يُلام المشركون على تركه. وعليه فالخطاب موجّه للمؤمنين، فقد أعيد الخطاب بلون غير الذي ابتدئ به. ومن لطائفه أنه موجه إلى المنافقين الذين ظَاهِرُهم أنهم مسلمون وهم في الباطن مشركون فهم الذين شحّوا بالإِنفاق. ووجه إلحاق هذه الآية وهي مدنيّة بالمكيّ من السورة مناسبة استيعاب أحوال الممسكين عن الإِنفاق من الكفار والمؤمنين تعريضاً بالتحذير من خصال أهل الكفر إذ قد سبقها قوله: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7].
{لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}. استئناف بياني ناشئ عمّا يجول في خواطر كثير من السامعين من أنهم تأخروا عن الإنفاق غير ناوين تركه ولكنهم سيتداركونه. وأدمج فيه تفضيل جهاد بعض المجاهدين على بعض لمناسبة كون الإِنفاق في سبيل الله يشمل إنفاق المجاهد على نفسه في العُدة والزاد وإنفاقَه على غَيْرِهِ ممن لم يستكمل عُدته ولا زاده، ولأن من المسلمين من يستطيع الجهاد ولا يستطيع الإِنفاق، فأريد أن لا يغفل ذكره في عداد هذه الفضيلة إذ الإِنفاق فيها وسيلة لها. وظاهر لفظ الفتح أنه فتح مكة، ألا ترى أنه كان عليهم أن يثبتوا أمام العدوّ إذا كان عدد العدوّ عشرة أضعاف عدد المسلمين في القتال قال تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65]. والحسنى: لقب قرآني إسلامي يدل على خيرات الآخرة، قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26].