المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

والمعنى : { وما لكم لا تنفقوا في سبيل الله } وأنتم تموتون وتتركون أموالكم ، فناب مناب هذا القول قوله : { ولله ميراث السماوات والأرض } ، وفيه زيادة تذكير بالله وعبرة ، وعنه يلزم القول الذي قدرناه .

وقوله تعالى : { لا يستوي منكم } الآية ، روي أنها نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة أنفقت نفقات كثيرة حتى قال ناس : هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق قديماً ، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل الفتح أعظم أجراً .

وهذا التأويل على أن الآية نزلت بعد الفتح ، وقد قيل إنها نزلت قبل الفتح تحريضاً على الإنفاق ، والأول أشهر وحكى الثعلبي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي ونفقاته{[10955]} ، وفي معناه قول النبي عليه السلام لخالد بن الوليد : «اتركوا لي أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه »{[10956]} .

واختلف الناس في { الفتح } المشار إليه في هذه الآية . فقال أبو سعيد الخدري والشعبي : هو فتح الحديبية . وقد تقدم في سورة «الفتح » تقرير كونه فتحاً ، ورفعه أبو سعيد الخدري إلى النبي عليه السلام أن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبية{[10957]} . وقال قتادة ومجاهد وزيد بن أسلم : هو فتح مكة الذي أزال الهجرة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو المشهور الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية »{[10958]} ، وقال له رجل بعد فتح مكة : أبايعك على الهجرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الهجرة قد ذهبت بما فيها » . ( وإن الهجرة شأنها شديد ، ولكن أبايعك على الجهاد ){[10959]} ، وحكم الآية باق غابر الدهر من أنفق في وقت حاجة السبيل أعظم أجراً ممن أنفق مع استغناء السبيل .

وأكثر المفسرين على أن قوله : { يستوي } مسند إلى { من } ، وترك ذكر المعادل الذي لا يستوي معه ، لأن قوله تعالى : { من الذين أنفقوا من بعد } قد فسره وبينه . ويحتمل أن يكون فاعل { يستوي } محذوفاً تقديره : لا يستوي منكم الإنفاق ، ويؤيد ذلك أن ذكره قد تقدم في قوله : { وما لكم ألا تنفقوا } ويكون قوله : { من } ابتداء وخبره الجملة الآتية بعد{[10960]} .

وقرأ جمهور السبعة : «وكلاً وعد الله الحسنى » وهي الوجه ، لأن وعد الله ليس يعوقه عائق على أن ينصب المفعول المقدم . وقرأ ابن عامر : «وكل وعد الله الحسنى » ، فأما سيبويه رحمه الله فقدر الفعل خبر الابتداء ، وفيه ضمير عائد وحذفه عنده قبيح لا يجري إلا في شعر ونحوه ، ومنه قول الشاعر [ جرير بن عطية ] : [ الرجز ]

قد أصبحت أم الخيار تدعي . . . عليّ ذنباً كله لم أصنع{[10961]}

قال : ولكن حملوا الخبر على الصفات كقول جرير : [ الوافر ]

وما شيء حميت بمستباح . . . {[10962]}

وعلى الصلات كقوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولاً }{[10963]} [ الفرقان : 41 ] وذهب غير سيبويه إلى أن { وعد } في موضع الصفة ، كأنه قال : «أولئك كل وعد الله الحسنى » ، وصاحب هذا المذهب حصل في هذا التعسف في المعنى فراراً من حذف الضمير في خبر المبتدأ . و : { الحسنى } الجنة ، قاله مجاهد وقتادة ، والوعد يتضمن ما قبل الجنة من نصر وغنيمة .

وقوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } قول فيه وعد ووعيد .


[10955]:ذكر ذلك الواحدي في كتابه"أسباب النزول" عن محمد بن غزوان عن الكللبي، ولكن الكلبي متهم بالكذب، كذلك رواه الواحدي بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي سنده ضعف، وذكره ابن كثير في تفسيره ثم قال:"هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه والله أعلم". وفضل أبي بكر رضي الله عنه وإنفاقه في سبيل الله أمران معروفان، ولا يقلل من ذلك ضعف هذا الحديث، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير يؤكد فضله وسبقه.
[10956]:أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن ابن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها. فبلغنا أن ذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:(دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد، أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم)، قال ابن كثير بعد أن ذكر هذا الحديث:"ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما، فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك، والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه).
[10957]:أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي اللع عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، قلنا: من هم يا رسول الله؟ أقريش؟ قال: لا، ولكنهم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا، فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مُد أحدكم ولا نصيفه، ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس،{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} الآية. قال ابن كثير بعد أن أورد هذا الحديث: وهذا الحديث غريب بهذا السياق، والذي في الصحيحين من رواية جماعة عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد ذكر الخوارج:(تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية...) الحديث، ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر، وساق الحديث من هذا الوجه ثم قال: فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية، فإن كان ذاك-أي رواية الأولى- محفوظا كما تقدم فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارا عما بعده.
[10958]:أخرجه البخاري في الصيد والجهاد ومناقب الأنصار والمغازي، ومسلم في الإمارة، والترمذي في السير، والنسائي في البيعة، وابن ماجه في الكفارات، والدارمي في السير، وأحمد في أكثر من موضع من مسنده، ولفظه كما جاء في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا).
[10959]:أخرجه البخاري في المغازي عن مجاشع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، قال: ذهب أهل الهجرة بما فيها، فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد، فلقيت أبا معبد بعد-وكان أكبرهما- فسألته، فقال: صدق مجاشع.
[10960]:وهي قوله تعالى:{أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا}. وقد ذكر أبو حيان هذا الرأي ووصفه بالبعد، وقال:" وهذا فيه تفكيك للكلام، وخروج عن الظاهر لغير موجب".
[10961]:هذا الرجز قاله أبو النجم العجلي،و"أم الخيار" هي زوجته، و"الذنب" الذي ادعته عليه وهو لم يصنعه هو الشيب والصلع والشيخوخة، يقول: إنها تلومني على شيبتي وشيخوختي وهو ذنب لم أرتكبه أنا، والشعر في خزانة الأدب للبغدادي، وفي كتاب سيبويه، وفي شرح شواهد المغني، وأمالي ابن الشجري ومغني اللبيب، وقد أكثر النحويون والبيانيون الكلام في هذا البيت، واختلفوا فيه اختلافا كبيرا بين نصب (كله) ورفعه، وابن عطية ينقل عن سيبويه أن في الفعل(أصنع) ضمير يعود على المبتدأ وهو (كل)، وأن التقدير:"لم أصنعه"، والحذف عنده قبيح ولا يقبل إلا في الشعر، ولكن غير سيبويه يجيز ذلك كالفراء والكسائي وابن مالك، والبيانيون يقولون: إن رفع"كل" أفضل لأنه يقتضي أنه لم يصنع شيئا من هذا الذي ادعته عليه من ذنوب، فالنفي ينصب على كل ذنب من الذنوب، وأما النصب فيقتضي أنه لم يصنع الذنوب مجتمعة، وهذا لا ينفي أنه قد صنع بعضها، وبعض العلماء ينقض ذلك، راجع خزانة الأدب، والمحتسب، والتسهيل وغيرها. ومثل هذا البيت قوله صلى الله عليه وسلم-حين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟-:"كل ذلك لم يكن"، أي: لم تقصر الصلاة ولم أنس.
[10962]:هذا عجز بيت قاله جرير يخاطب عبد الملك بن مروان، والبيت بتمامه: أبحت حمى تِهامة بعد نجد وما شيء حميت بمُستباح يقول له: ملكت العرب وأبحت حماها بعد إبائها عليك، وما حميته لا يستطيع أحد أن يستبيحه لقوة سلطانك، وتهامة: ما هبط ونزل من بلاد العرب، ونجد: ما علا وارتفع منها، يعني ملكت جميع البلاد العربية، والبيت شاهد لجواز حذف الهاء من الفعل إذا وقعت جملته نعتا؛ لأن النعت مع المنعوت كالصلة مع الموصول، وحذفها في الصلة حسن فضارعها النعت في ذلك، وتقدير الكلام:"وما شيء حميته بمستباح"، والبيت في الديوان، وفي الكتاب لسيبويه، وأمالي ابن الشجري، ومغني اللبيب.
[10963]:من الآية(94) من سورة (الإسراء).