الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

قوله : { أَلاَّ تُنفِقُواْ } كقوله { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } [ البقرة : 246 ] فالأصلُ : في أن لا تُنْفِقُوا ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجرِّ جَرى الخلافُ المشهورُ . وأبو الحسن يرى زيادتَها كما تقدَّم تقريرُه في البقرة .

قوله : { وَللَّهِ مِيرَاثُ } جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل الاستقرار ومفعولِه ، أي : وأيُّ شيءٍ يمنعُكم من الإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ والحالُ أنَّ ميراثَ السماواتِ والأرضِ له ، فهذه حالٌ منافيةٌ لبُخْلِكم .

قوله : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَق } في فاعل " يَسْتوي " وجهان ، أظهرُهما : أنه مِنْ أَنْفَق ، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حذفِ معطوفٍ يتمُّ به الكلامُ ، فقدَّره الزمخشري : " لا يَسْتوي منكم مَنْ أنفقَ قبلَ فتحِ مكةَ وقوةِ الإِسلام ومَنْ أنفق مِنْ بعدِ الفتح ، فَحَذَفَ لوضوحِ الدلالة " وقَدَّره أبو البقاء " ومَنْ لم يُنْفِق " قال : " ودلَّ على المحذوفِ قولُه : { مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ } والأول أحسنُ لأنَّ السِّيَاقَ إنما جيء بالآية ليُفرِّق بين المُنْفِقين في زمانَيْنِ . والثاني : أنَّ فاعلَه ضميرٌ يعود على الإِنفاقِ ، أي : لا يَسْتوي جنسُ الإِنفاقِ إذ منه ما وَقَعَ قبل الفتح ، ومنه ما وَقَعَ بعدَه ، فهذان النوعان متفاوتان . وعلى هذا فتكون " مَنْ " مبتدأ و " أولئك " مبتدأٌ ثانٍ و " أَعظَمُ " خبرُه ، والجملةُ خبرُ " مَنْ " وهذا ينبغي أن لا يجوزَ البتةَ ، وكأنَّ هذا المُعْرِبَ غَفَل عن قولِه : " منكم " ولو أعربَ هذا القائلُ " منكم " خبراً مقدماً ، و " مَنْ " مبتدأ مؤخراً . والتقدير : مِنْكم مَنْ أنفق من قبلِ الفتحِ ، ومنكم مَنْ لم يُنْفِقْ قبلَه ولم يقاتِلْ ، وحُذِف هذا لدلالةِ الكلامِ عليه لكان سديداً ، ولكنه سها عن لفظةِ " منكم " .

قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } قراءةُ العامَّةِ بالنصبِ على أنه مفعولُ مقدمٌ ، وهي مرسومةٌ في مصاحفِهم " وكلاً " بألفٍ ، وابنُ عامر برفعِه ، وفيه وجهان ، أظهرُهما : أنه ارتفعَ على الابتداءِ ، والجملة بعدَه خبرٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : وعده اللهُ . ومثلُه :

قد أصبحَتْ أمُّ الخِيار تَدَّعِي *** عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنَعِ

برفع " كلُّه " ، أي : لم أَصْنَعْه . والبصريُّون لا يُجيزون هذا إلاَّ في شعرٍ كقولِه :

وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا *** بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطلِ

وقد نقل ابن مالك الإِجماعَ من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إنْ كان المبتدأ " كلاً " أو ما أشبهَها في الافتقار والعمومِ ، وهذا لم أَرَه لغيره . وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ ذلك في سورة المائدةِ عند قولِه : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [ المائدة :50 ] ولم يُرْوَ قولُه : " كلُّه لم أصنَع " إلاَّ بالرفعِ مع إمكانِ أَنْ ينصبَه فيقول : " كلَّه لم أصنعِ " مفعولاً مقدَّماً . قال أهل البيان : لأنه قصد عمومَ السلبِ لا سَلْبَ العمومِ ، فإن الأولَ أبلغُ ، وجعلوا من ذلك قولَه عليه السلام :

" كل ذلك لم يكنْ " ولو قال : " لم يكن كلُّ ذلك " لكان سَلْباً للعُموم ، والمقصودُ عمومُ السَّلْب .

والثاني : أن يكونَ " كل " خبَر مبتدأ محذوفٍ ، و { وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } صفةٌ لما قبله ، والعائدُ محذوف ، أي : وأولئك كلٌّ وعدَه اللهُ الحسنى . فإن قيل : الحذفُ موجودٌ أيضاً وقد عُدْتم لِما فرَرْتُمْ منه . فالجوابُ : أنَّ حَذْفَ العائدِ من الصفة كثيرٌ بخلاف حَذْفِه من الخبرِ . ومِنْ حَذْفِه من الصفة قولُه :

وما أَدْري أغَيَّرهم تَناءٍ *** وطولُ العَهْدِ أم مالٌ أصابوا

أي أصابوه ، ومثله كثيرٌ . وهي في مصاحفِ الشامِ مرسومةٌ " وكلٌّ " بدون ألف ، فقد وافق كلٌّ مصحفَه . و " الحُسْنى " مفعولٌ ثانٍ ، والأولُ محذوفٌ على قراءةِ الرفعِ ، وأمَّا النصبُ فالأولُ مقدَّمٌ/ على عامِله .