إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

وقولُه تعالَى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله } توبيخٌ لهم على تركِ الإنفاقِ المأمورِ به بعدَ توبيخِهم على ترك الإيمانِ بإنكار أنْ يكونَ لهم في ذلكَ أيضاً عذرٌ من الأعذارِ . وحذفُ المفعولِ لظهورِ أنَّه الذي بُيِّنَ حالُه فيما سبقَ وتعيينُ المُنفَقِ فيهِ لتشديدِ التوبيخِ ، أيْ وأيُّ شيءٍ لكُم في أنْ لا تنفقُوا فيمَا هُو قربةٌ إلى الله تعالَى ما هُو له في الحقيقةِ وإنَّما أنتُم خلفاؤُه في صرفِه إلى ما عيَّنهُ من المصارفِ . وقولُه : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } حالٌ من فاعلِ لا تنفقُوا ومفعولِه مؤكدةٌ للتوبيخِ فإنَّ تركَ الإنفاقِ بغير سببٍ قبيحٌ منكرٌ ومع تحقق ما يوجبُ الإنفاقَ أشدُّ في القبحِ وأدخلُ في الإنكارِ ، فإنَّ بيانَ بقاءِ جميعِ ما في السماوات والأرضِ من الأموالِ بالآخرةِ لله عزَّ وجلَّ من غيرِ أنْ يبقَى من أصحابِها أحدٌ أقوى في إيجابِ الإنفاقِ عليهم من بيان أنَّها لله تعالى في الحقيقةِ وهم خُلفاؤه في التصرف فيها كأنَّه قيلَ وما لكُم في ترك إنفاقِها في سبيلِ الله والحالُ أنَّه لا يبقَى لكُم منها شيءٌ بل تَبْقى كلُّها لله تعالَى ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ وتربية المهابةِ .

وقولُه تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم منْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل } بيانٌ لتفاوت درجاتِ المنفقينِ حسبَ تفاوتِ أحوالِهم في الإنفاقِ بعدَ بيانِ أنَّ لهم أجراً كبيراً على الإطلاقِ حثَّاً لهم على تحرِّي الأفضلِ ، وعطفُ القتالِ على الإنفاقِ للإيذانِ بأنَّه من أهمِّ موادِّ الإنفاقِ مع كونِه في نفسِه من أفضلِ العباداتِ وأنه لا يخلُو من الإنفاقِ أصلاً . وقسيمُ مَنْ أنفقَ محذوفٌ لظهورِه ودلالةِ ما بعدَهُ عليهِ وقُرئ قبلَ الفتحِ بغير مِنْ والفتحُ فتحُ مكَة { أولئك } إشارةٌ إلى مَنْ أنفقَ والجمعُ بالنظرِ إلى مَعْنى مَنْ كما أنَّ أفرادَ الضميرينِ السابقينِ بالنظرِ إلى لفظِها ، وما فيهِ من مَعْنى البُعد مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعدِ منزلتِهم وعلوِّ طبقاتِهم في الفضلِ ، ومحلُّه الرفعُ على الابتداءِ أي أولئكَ المنعوتونَ بذينكَ النعتينِ الجميلينِ { أَعْظَمُ دَرَجَةً } وأرفعُ منزلةً { منَ الذين أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وقاتلوا } لأنَّهم إنما فعلُوا ما فعلُوا من الإنفاق والقتالِ قبل عزةِ الإسلامِ وقوةِ أهلِه عند كمالِ الحاجةِ إلى النصرة بالنفسِ والمالِ وهم السابقونَ الأولونَ من المهاجرينَ والأنصارِ الذينَ قالَ فيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «لو أنفقَ أحدُكم مثلَ أحدٍ ذهباً ما بلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَهُ »{[770]} وهؤلاءِ فعلُوا ما فعلُوا بعد ظهورِ الدينِ ودخولِ الناسِ فيه أفواجاً وقلةِ الحاجةِ إلى الإنفاقِ والقتالِ { وَكُلاًّ } أي وكلَّ واحدٍ من الفريقينِ { وَعَدَ الله الحسنى } أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنةُ لا الأولينَ فقطْ . وقُرِئَ وكلٌّ بالرفعِ على الابتداءِ أي وكلٌّ وعدَهُ الله تعالَى { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } بظواهرِه وبواطنهِ فيجازيكُم بحسبِه وقيلَ نزلتْ الآيةُ في أبي بكرٍ رضيَ الله تعالَى عنه فإنَّه أولُ مَنْ آمنَ وأولُ من أنفقَ في سبيلِ الله وخاصمَ الكفَّارَ حتى ضُربَ ضرباً أشرفَ به على الهلاكِ .


[770]:أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي باب (5)؛ ومسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث (221، 222)؛ وأبو داود في كتاب السنة باب (10) ؛ والترمذي في كتاب المناقب باب (58)؛ وابن ماجه في المقدمة باب (1)؛ وأحمد في المسند (3/11، 54)؛ (6/6).