تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

المفردات :

الفتح : فتح مكة .

الحسنى : المثوبة الحسنى ، وهي النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة في الآخرة .

التفسير :

10-{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

أي شيء يمنعكم من الإنفاق في مرضاة الله ، ونصر دينه ، وتأييد رسوله ، وتبليغ دعوته ، ودعم الجهاد في تأييد الإسلام ومرضاة الرحمن ؟

والحياة الدنيا محدودة ، فستنتهي أعماركم ، ويؤول المال إلى وارثكم ، وفي ذلك الوقت لا تستطيعون الإنفاق ، وفي الأثر : ( إن مالك ما قدّمت ، ومال وارثك ما أخّرت ) .

أو أن الناس جميعا ستفنى ، والله هو الباقي وحده ، وسيؤول إليه سبحانه ملك السماوات والأرض ، فملك البشر عارية محدودة ، وملك الله باق خالد .

قال تعالى : { كل من عليها فان*ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } . ( الرحمن : 26-27 ) .

وقال تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ . . . } ( الحديد : 7 ) .

فالمال مال الله ، والإنسان مستخلف عليه لتثميره ووضعه في حقه ، وكان الرجل من الصالحين يقول : هذا مال الله عندي ، ويقول : لله عندي سبعة أولاد ، وسبعون ألفا من الدراهم .

والخلاصة :

أنفقوا من أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا ، ليكون ذلك ذخرا لكم عند ربكم ، فبعد الموت لا تقدرون على ذلك ، إذ تصير الأموال ميراثا لمن له السماوات والأرض .

{ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ . . . }

كان الإسلام غريبا في مكة ، مكث فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما ، وكل من آمن به مائتا رجل وامرأة ، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة بدأ الجهاد والقتال ، وخاض النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه اثنتين وخمسين غزوة وسريّة ، مع أن مدة المدينة كلها كانت عشر سنوات ، أي أنه كان لا يمضي شهران في المتوسط إلا والمسلمون يخوضون غمار غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو سرية مع أمير من الصحابة ، وكان الوقت فيه عسرة ومشقة ، وقلة في المال ، فمن تطوّع بماله ونفسه في تلك الفترة ، وفي وقت الجهد والمشقة والكفاح ، كان أصدق قصدا ، وأرغب فيما عند الله ، ثم فتحت مكة سنة 8 ه ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وجاء المال وجاءت المغانم ، وغنم المسلمون مغانم كثيرة في فتح حنين والطائف ، فقارن القرآن بين من أنفق قبل الفتح وضحّى بنفسه وماله ، مثل أبي بكر الصديق الذي قدّم ماله كله ابتغاء مرضاة الله ، ومن قدم ماله وجاهد بنفسه بعد الفتح .

قال تعالى : أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا . . .

من أنفق المال وقاتل في سبيل الله قبل فتح مكة ، أو قبل صلح الحديبية ، أعظم أجرا وثوابا ورضوانا من الله ، من الذين أنفقوا أموالهم وبذلوا أنفسهم بعد فتح مكة ، أو بعد صلح الحديبية .

وجمهور العلماء على أن المراد بالفتح فتح مكة ، وقيل : الفتح : صلح الحديبية .

قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك .

{ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى . . . }

أي : كلا من الذين أنفقوا وجاهدوا قبل الفتح ، والذين أنفقوا وجاهدوا بعد الفتح ، وعدهم الله الثواب العظيم والجنة ، أو عز الدنيا وشرف الآخرة ، وإن كان بينهم تفاوت في مقدار الجزاء .

كما قال تعالى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . ( النساء : 95 ) .

وفي الحديث الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " .

لقد استوى الاثنان في الخير ، وفي الجزاء بالحسنى والجنة ، لكن الله فاوت بين الاثنين في الفضل ، وفضّل من أنفق وجاهد في وقت المشقة ، وقلة العدد وقلة المال ، حيث كان الإخلاص أظهر ، والرغبة فيما عند الله أوضح ، ومع ذلك جعل الله سبحانه جزاء حسنا لمن أنفق بعد الفتح وقاتل .

قال تعالى في ختام الآية :

{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

هو سبحانه مطلع على القلوب والنفوس ، عالم بالنّوايا ، يعلم السر وأخفى ، وهو المجازي على أعمالكم ، فأخلصوا له النية .