السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

{ وما } أي : وأي شيء يحصل { لكم } في { أن لا تنفقوا } أي : توجدوا الإنفاق للمال { في سبيل الله } أي : في كل ما يرضى الملك الأعظم الذي له صفات الكمال ليكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة ، فإنه ما يبخل أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شرّ { ولله } أي : الذي له صفات الكمال لاسيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث { ميراث السماوات والأرض } أي : يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال فمن تأمّل أنه زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه وطوارق الحوادث مطبقة به وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله .

ثم بين تعالى التفاوت بين المنفقين منهم فقال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق } أي : أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه { من قبل الفتح } أي : الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور الدين الحق { وقاتل } سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به قبل الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقله الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد الفتح ، فحذف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه ، وفضل الأوّل لما ناله إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر فإنه أوّل من أنفق لم يسبقه في ذلك أحد ، وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً شديداً أشرف منه على الهلاك ، روى محمد بن فضيل عن الكلبي : أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وعن ابن عمر قال : «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها بخلال ؟ فقال : أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال : فإنّ الله عز وجل يقول : اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أسخط على ربي إني عن ربي راض » { أولئك } أي : المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلع مدّ أحدهم ولا نصيفه » لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال { أعظم درجة } وتعظيم الدرجة يكون لعظم صاحبها { من الذين أنفقوا من بعد } أي : من بعد الفتح { وقاتلوا } أي : من بعد الفتح { وكلا } أي : وكل واحد من الفريقين { وعد الله } أي : الذي له الجلال والإكرام { الحسنى } أي : المثوبة الحسنى وهي : الجنة مع تفاوت الدرجات ، وقرأ ابن عامر : برفع اللام على الابتداء أي : وكل وعده ليطابق ما عطف عليه والباقون بنصبها أي : وعد كلا { والله } أي : الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الكمال { بما تعملون } أي : تجدّدون عمله على الأوقات { خبير } أي : عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها .

تنبيه : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة » وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه : «مروا أبا بكر فليصل بالناس » وقال : «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله » وقال : «فليؤمكما أكبركما » وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا ، وفي الحديث «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا » وفي الحديث : «ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه » .