قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ } .
الكلام فيه كالكلام في قوله : { وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ } [ البقرة : 246 ] ، فالأصل : «في ألا تنفقُوا » .
فلما حذف حرف الجر جرى الخلاف المشهور ، وأبو الحسن يرى زيادتها{[55239]} كما تقدم تقريره في البقرة .
قوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ } جملة حالية من فاعل الاستقرار أو مفعوله ، أي : وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله ، والحال أن ميراث السماوات والأرض له ، فهذه حال منافية .
فصل في الكلام على الإنفاق{[55240]}
لما أمر أولاً بالإيمان وبالإنفاق ، ثم أكَّده في الآية المتقدمة بإيجاب الإيمان بالله أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاد الإنفاق ، والمعنى : أنكم ستموتون فتورثون ، فهلا قدّمتموه في الإنفاق على طاعة الله ؟ .
وتحقيقه : أن المال لا بد وأن يخرج من اليد ، إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله ، فإن خرج بالموت كان أثره اللَّعنُ والمقتُ والطرد والعقاب ، وإن خرج بالإنفاق في سبيل الله كان أثره المدح والثواب وإذا كان لا بد من خروجه من اليد ، فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه مما يستعقب اللعن والعقاب ، ثم لما بين تعالى أن الإنفاق في سبيل الله فضيلة بيَّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة ، فقال : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ } .
قوله : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ } .
في فاعل «يستوي » وجهان{[55241]} :
أظهرهما : أنه «مَنْ أنفق » وعلى هذا فلا بد من حذف معطوف يتم به الكلام ، فقدره الزمخشري{[55242]} : لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح «مكة » وقوة الإسلام ، ومن أنفق من بعد الفتح ، [ فحذف لوضوح الدلالة ] {[55243]} .
[ وقدره أبو البقاء{[55244]} : «ومن لم ينفق » .
قال : ودلّ على المحذوف قوله : { مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح } ]{[55245]} .
والأول أحسن ؛ لأن السِّياق إنما جيء بالآية ليفرق بين النَّفقتين في زمانين .
والثاني : أن فاعله ضمير يعود على الإنفاق ، أي : لا يستوي جنس الإنفاق إذ منه ما وقع قبل الفتح ، ومنه ما وقع بعده .
فهذان النَّوعان متفاوتان ، وعلى هذا فيكون «من » مبتدأ ، و«أولئك » مبتدأ ثاني ، و«أعظم » خبره ، والجملة خبر «من » . وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتة .
وكأن هذا المعرب غفل عن قوله : «منكم » ، فلو أعرب هذا القائل «منكم » خبراً مقدماً ، و«من » مبتدأ مؤخراً ، والتقدير : منكم من أنفق من قبل الفتح ، ومنكم من لم ينفق قبله ولم يقاتل ، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه لكان سديداً ، ولكنه سَهَا عن لفظة «منكم »{[55246]} .
أكثر المفسرين{[55247]} على أن المراد بالفتح فتح «مكة » .
وقال الشعبي والزهري : فتح «الحديبية »{[55248]} .
قال قتادة : كان قتالان ، أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ؛ لأن القتال والنفقة قبل فتح «مكة » أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك ، وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ، لأن حاجة النَّاس كانت أكثر لضعف الإسلام ، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق ، والأجر على قدر النَّصب{[55249]} .
قال مالك رضي الله عنه : ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم لقوله تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ } .
قال الكلبي : نزلت في أبي بكر وفيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر وتقديمه ؛ لأنه أوَّل من أسلم ، وأول من أنفق في سبيل الله{[55250]} .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أوَّل من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر .
وعن ابن عمر قال : «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر ، وعليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخلالٍ ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : يا نبي الله ، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ؟ قال : «أنْفَقَ مالهُ عليَّ قَبْلَ الفَتحِ » ، قال : فإن الله تعالى يقول لك : اقرأ على أبي بكر السلام ، وقل له : أنت راضٍ في فقرك أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : إني عن ربي لَراضٍ ، قال : فإن الله - تعالى - يقول لك : قد رضيت عنك كما أنت عني راضٍ ، فبكى أبو بكر ، فقال جبريل : والذي بعثك يا محمد بالحق لقد تخلَّلت حملةُ العرش بالعبى منذ تخلَّل صاحبك هذا بالعباءة »{[55251]} .
ولهذا قدمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدم والسبق .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سبق النبي صلى الله عليه وسلم وثنى أبو بكر وثلث عمر ، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد [ المفتري ] ثمانين جلدة وطرح الشهادة{[55252]} .
فصل في التقدم والتأخر في أحكام الدين
فإن قلت : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا ، فأما في أحكام الدين فقالت عائشة رضي الله عنها : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل النَّاس منازلهم . وأعظم المنازل مرتبة الصلاة{[55253]} .
وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه : «مُرُوا أبَا بَكْر فليُصَلِّ بالنَّاسِ » .
وقال : «يَؤم القَوْمَ أقرؤهُم لِكتابِ اللَّه »{[55254]} .
وفهم منه العلماء أنه أراد كبر المنزلة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «الوَلاَء للْكِبَرِ » ولم يَعْنِ كبر السن .
وقد قال مالك وغيره : إن للسن حقًّا ، وراعاهُ الشَّافعي وأبو حنيفة ، وهو أحق بالمراعاة .
وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين ، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا .
وفي الحديث : «ليْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوقِّر كبِيْرنَا ويرْحَمْ صَغِيْرَنا ويَعرفْ لِعَالِمنَا حقَّهُ » .
وفي الحديث أيضاً : «مَا أكْرَمَ شابٌّ شَيْخاً لسنِّهِ إلاَّ قيَّضَ اللَّهُ لهُ عِندَ سنِّهِ مَنْ يُكرمهُ »{[55255]} .
قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } .
قراءة العامة : بالنَّصب على أنَّه مفعول مقدم ، وهي مرسومة في مصاحفهم «وكلاًّ » بألف{[55256]} .
وابن عامر{[55257]} : برفعه .
وفيه وجهان{[55258]} :
أظهرهما : أنه ارتفع على الابتداء ، والجملة بعده خبره ، والعائد محذوف أي : وعده الله .
قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي *** عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ{[55259]}
والبصريون [ رحمة الله عليهم ]{[55260]} لا يجيزون هذا إلاَّ في شعر ، كقوله : [ السريع ]
وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتِنَا *** بالحَقِّ لا يَحْمَدُ بالبَاطِلِ{[55261]}
ونقل ابن مالك الإجماع من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إن كان المبتدأ «كُلاًّ » وما أشبهها في الافتقار والعموم .
قال شهاب الدين لم أره لغيره وقد تقدم نحو من ذلك في سورة «المائدة » ، عند قوله تعالى : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] ولم يرو قوله : «كله لم أصنع » إلا بالرفع مع إمكان أن تنصبه ، فتقول : «كله لم أصنع » مفعولاً مقدماً .
قال أهل البيان{[55262]} : لأنه قصد عموم السَّلب لا سلب العموم ، فإن الأول أبلغ ، وجعلوا من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ » .
ولو قال : لم يكن كل ذلك ، لكان سلباً للعموم ، والمقصود عموم السَّلب .
قال الشيخ عبد القاهر{[55263]} : المعنى يتفاوت بالرفع والنصب ، فمع الرفع يفيد أنه لم يفعل شيئاً من الأشياء ، ومع النَّصْب يفيد أنه يفعل المجموع ، ولا يلزم أنه لم يفعل البعض ، بل إن قلنا بدليل الخطاب دل على أنه فعل البعض .
والثاني{[55264]} : أن يكون «كلّ » خبر مبتدأ محذوف ، و{ وعد الله الحسنى } صفة لما قبله ، والعائد محذوف ، أي : «وأولئك كل وعد الله الحسنى » .
فإن قيل : الحذف موجود أيضاً فقد عدتم لما فررتم منه ؟ .
فالجواب : أن حذف العائد من الصفة كثير بخلاف حذفه من الخبر .
ومن حذفه من الصفة قوله : [ الوافر ]
ومَا أدْرِي أغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ *** وطُولُ العَهْدِ أمْ مَالٌ أصَابُوا{[55265]}
أي : أصابوه ، ومثله كثير ، وهي في مصاحف «الشام » مرسومة : «وكلّ » دون ألف فقد وافق كل مصحفه ، و«الحسنى » مفعول ثان ، والأول محذوف على قراءة الرفع .
وأمَّا النصب فالأول مقدّم على عامله .
ومعنى الآية{[55266]} : أن المتقدمين{[55267]} السَّابقين والمتأخرين اللاَّحقين وعدهم الله جميعاً الجنة مع تفاوت الدرجات .
{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : أنه لما وعد السَّابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالماً بالخيرات ، وبجميع المعلُومات حتى يمكنه إيصال الثَّواب إلى المستحقين ، إذ لو لم يكن عالماً بهم ، وبأفعالهم على سبيل التفصيل لما أمكن الخروج من عهدة الوعد بالتَّمام ، فلهذا السَّبب أتبع هذا الوعد بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }{[55268]} .