والذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلول . فهي كركوب وحلوب ، يقال : ذلول ، بين الذل بضم الذال ، واختلف المفسرون في معنى : المناكب ، فقال ابن عباس : أطرافها وهي الجبال ، وقال الفراء ومنذر بن سعيد : جوانبها ، وهي النواحي ، وقال مجاهد : هي الطرف والفجاج ، وهذا قول جار مع اللغة ، لأنها تنكب يمنة ويسرة ، وينكب الماشي فيها ، في مناكب{[11216]} . وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس ، وفي التمتع في رزق الله تعالى ، و { النشور } : الحياة بعد الموت .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا}: أثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها،
{فامشوا} يعني فمروا {في مناكبها} يعني في نواحيها وجوانبها آمنين كيف شئتم، {وكلوا من رزقه} الحلال، {وإليه النشور} يقول: إلى الله تبعثون من قبوركم أحياء بعد الموت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً "يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل لكم الأرض ذَلُولاً سْهلاً، سَهّلها لكم فامْشُوا فِي مَناكِبها.
واختلف أهل العلم في معنى "مَناكِبها"؛
فقال بعضهم: مناكبها: جبالها...
وقال آخرون: مَناكِبها: أطرافها ونواحيها... عن مجاهد، قوله: "فامْشُوا فِي مَناكِبها" قال: طرقها وفجاجها.
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فامشوا في نواحيها وجوانبها، وذلك أن نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه.
وقوله: "وكُلُوا مِنْ رزْقِهِ" يقول: وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض.
"وَإلَيْهِ النّشُورُ" يقول تعالى ذكره: وإلى الله نشركم من قبوركم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وإذا ذلل لكم الأرض لتمشوا في مناكبها، وتأكلوا من رزقه، فلا يجوز أن يكون خلقه عبثا باطلا، فلا بد من الرجوع إليه ليسألكم عم له خلق؟ أو فيم خلق؟ أو لم تقوّلوا؟ وإذا ثبت أنه لم يخلقها عبثا باطلا، وإنما خلقت للمحنة فلا بد من أن ينشروا إليه، ليخبروه عما بلاهم به وامتحنهم.
ويحتمل أن يكون هذا صلة قوله: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الآية: 3]. فأمر هناك بالنظر مرة بعد مرة: هل ترى فيه تفاوتا أو فطورا؟ ليتبين عنده إذا لم ير فيه تفاوتا ولا فطورا، وحدانية الرب وقدرته وسلطانه وحكمته، فأمرهم أيضا بالمسير في الأرض والمشي في مناكبها، وهي أطرافها، هل يرون فيها فطورا وتفاوتا؟ فإذا لم يروا فيها شيئا من ذلك، تقرر عندهم جميع ما ذكرنا من الحكمة هناك.
ولأنه ذكّرهم لطيف تدبيره في خلق الأرض وما له على الخلق من عظيم النعمة في حقه، وهو أنه قدر لهم فيها أرزاقهم إلى حيث يمشون فيها، وهيأ لهم الرزق هناك، لا يحتمل أن يذلل لهم الأرض، فيضربوا فيها حين شاءوا، ويستخرجوا منها أقواتهم أينما تصرّفوا، عبثا باطلا. بل لا بد أن يستأديكم شكر ما أنعم عليكم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس، وفي التمتع في رزق الله تعالى...
المسألة الأولى: اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بين بالدلائل كونه عالما بما يسرون وما يعلنون، ثم ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد...
المسألة الثانية: الذلول من كل شيء: المنقاد الذي يذل لك، ومصدره الذل، وهو الانقياد واللين، ومنه يقال: دابة ذلول...
{وإليه النشور} يعني ينبغي أن يكون مكثكم في الأرض، وأكلكم من رزق الله مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله، وأكل من يتيقن أن مصيره إلى الله، والمراد تحذيرهم عن الكفر والمعاصي في السر والجهر...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها، في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا، إلا أن ييسره الله لكم؛ ولهذا قال: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} انتفعوا بما أنعم جل شأنه، وكثيراً ما يعبر عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم التي خلقها الله، إلى الأرض التي خلقها له، وذللها وأودعها أسباب الحياة: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور).. والناس لطول ألفتهم لحياتهم على هذه الأرض؛ وسهولة استقرارهم عليها، وسيرهم فيها، واستغلالهم لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها وقواها وأرزاقها جميعا.. ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها. والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة، ويبصرهم بها، في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد وكل جيل بقدر ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول. والأرض الذلول كانت تعني في أذهان المخاطبين القدامى، هذه الأرض المذللة للسير فيها بالقدم وعلى الدابة، وبالفلك التي تمخر البحار. والمذللة للزرع والجني والحصاد. والمذللة للحياة فيها بما تحويه من هواء وماء وتربة تصلح للزرع والإنبات. وهي مدلولات مجملة يفصلها العلم -فيما اهتدى إليه حتى اليوم- تفصيلا يمد في مساحة النص القرآني في الإدراك. فمما يقوله العلم في مدلول الأرض الذلول: إن هذا الوصف: (ذلولا).. الذي يطلق عادة على الدابة، مقصود في إطلاقه على الأرض! فالأرض هذه التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة، هي دابة متحركة.. بل رامحة راكضة مهطعة!! وهي في الوقت ذاته ذلول لا تلقي براكبها على ظهرها، ولا تتعثر خطاها، ولا تخضه وتهزه وترهقه كالدابة غير الذلول!
ثم هي دابة حلوب مثلما هي ذلول!
(فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه). والمناكب المرتفعات، أو الجوانب. وإذا أذن له بالمشي في مناكبها فقد أذن له بالمشي في سهولها وبطاحها من باب أولى. فمتى أذن له في الشموس منها فقد أذن له في الذلول!
والرزق الذي فيها كله من خلقه، وكله من ملكه، وهو أوسع مدلولا مما يتبادر إلى أذهان الناس من كلمة الرزق. فليس هو المال الذي يجده أحدهم في يده، ليحصل به على حاجياته ومتاعه. إنما هو كل ما أودعه الله هذه الأرض، من أسباب الرزق ومكوناته. وهي في الأصل ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض من عناصرها.
(فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).. وهو محدود بزمن مقدر في علم الله وتدبيره زمن الابتلاء بالموت والحياة، وبكل ما يسخره الله للناس في هذه الحياة. فإذا انقضت فترة الابتلاء كان الموت وكان ما بعده: (وإليه النشور).. إليه.. وإلا فإلى أين إن لم يكن إليه، والملك بيده، ولا ملجأ منه إلا إليه، وهو على كل شيء قدير،...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
الأمر في قوله تعالى: {فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} للإباحة. ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً} فيه امتنان من الله تعالى على خلقه، مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيهاً وحثاً للأمة على السعي والعمل والجد، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب لتسخيرها وتذليلها، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها... فيكون المشي في مناكب الأرض، واستخدام مناكبها، واستغلال ثرواتها، والانتفاع من خيراتها، لا لطلب الرزق وحده، وإلا لكان يمكن سوقه إليهم، ولكن للأخذ بالأسباب أولاً، وللنظر في المسببات والعبرة بالمخلوقات والتزود لما بعد الممات، كما في آية الجمعة: {فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]. أي عند مشاهدة آيات قدرته وعظيم امتنانه. وعليه، فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى، والاستغناء والاستثمار والإنتاج، فما نقص عليها من أمور دنياها، إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل، وأضاعت من حقها في هذا الوجود. وقد قال النووي في مقدمة المجموع: إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجياتها، حتى الإبرة لتستغني عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج، وهذا هو واقع العالم اليوم، إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية. وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولوية في هذا كله، فعليهم أن يحتلوا مكانهم، ويحافظوا على مكانتهم، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معاً. وبالله التوفيق...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
مع أن من المحتمل أن يكون الخطاب فيها موجها للكافرين الذين هم موضوع الخطاب في الآيات السابقة، فإنها تنطوي على ما هو المتبادر على تلقينات جليلة المدى:
فقد سخر الله الدنيا للجميع، فليس لأحد أن يمنع أحدا من السعي في مناكبها والانتفاع منها.
وقد حث الجميع على السعي في مناكبها، فليس لأحد أن يأكل سعي غيره، أو يسلبه ثمرات سعيه، ويقعد هو عن السعي.
- وقد سخر الدنيا ومنافعها لجميع الناس، ولكنه نبههم إلى أن هذه المنافع لا تنال إلا بالسعي والعمل.
- وقد قرر أن الرزق الذي يستخرجه الناس من الأرض، هو في الحقيقة رزقه؛ لأنه هو الذي خلق مادته، وأوجد القوى والأسباب التي تساعد على إخراجه، فلا حق لأحد أن يدعيه لنفسه، أو يحتكره من دون الناس...
والناس ينظرون إلى الرزق من ناحية واحدة، فهو عندهم المال، فهذا غني وهذا فقير، والحقيقة أن الرزق ليس المال فقط، بل كل شيء تنتفع به فهو رزقك، فهذا رزقه عقله، وهذا رزقه قوته العضلية.
إذن يجب ألا ننظر إلى الرزق على أنه لون واحد، بل ننظر إلى كل ما خلق الله لخلقه من مواهب مختلفة: صحة، قدرة، ذكاء، حلم، شجاعة، كل هذا من الرزق الذي يحدث فيه التفاضل بين الناس.
والحق سبحانه هو الرازق الأعلى ومن بحره يغترف الجميع، ولله تعالى في رزقه حكمة وقدر، فليس بسط الرزق دليل كرامة، ولا تضييقه دليل إهانة، بدليل أن الله يبسط الرزق لقارون، ثم أخذه عزيز مقتدر...
فالأرض كلها لله لا حدود فيها ولا فواصل بينها، فلما قسمها الناس وجعلوا لها حدودا تمنع الحركة فيها حدثت كثير من الإشكالات، وصعب على الناس التنقل للسياحة أو لطلب الرزق إن ضاق بأحد رزقه.