الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ} (15)

و{ ذَلُولاً } بمعنى مَذْلُولَةٍ ، و{ مَنَاكِبِهَا } قال مجاهد : هي الطُّرُقُ والفجاجُ ، وقال البخارِي : { مَنَاكِبِهَا } : جَوَانِبُها ، قال الغزالي رحمه اللَّه : " جَعَلَ اللَّهُ سبحانَه الأَرْضَ ذَلُولاً لِعِبَادِه لاَ لِيَسْتَقِرُّوا في مناكِبها ، بلْ لِيَتَّخِذُوهَا مَنْزِلاً فَيَتزَوَّدُونَ منها مُحْتَرِزِينَ من مصائدِها ومَعَاطبِها ، ويتحقَّقُون أنّ العُمْرَ يَسِيرُ بهم سَيْرَ السفينةِ بِرَاكِبِها ، فالناسُ في هَذَا العَالَمِ سُفْرُ ، وأوَّلُ منازلِهم المَهْدُ ، وآخرُها اللحدُ ، والوَطَنُ هو الجنَّةُ أو النَّارُ ، والعُمْرُ مسَاقَةُ السَّفَرِ ، فَسِنُوه مَرَاحِلهُ ، وشُهورُه فَرَاسِخُه ، وأيامُه أمْيَالُه ، وأنْفَاسُه خُطُواتُه ، وطَاعَتُه بضاعتُه ، وأوقَاتُه رؤوس أموالِه ، وشَهَواتُه وأغْرَاضُه قطاع طريقِه ، وربحُه الفوزُ بلقاءِ اللَّه عز وجل في دار السلام ، مع المُلْكِ الكبيرِ والنَّعِيمِ المُقِيمِ ، وخسرانُه البُعْد من اللَّه عز وجل ، مع الأنْكَالِ والأَغْلاَلِ والعذاب الأليمِ في دَرَكَاتِ الجحيم ، فالغافلُ عن نَفسِ واحدٍ من أنْفَاسِهِ ، حتى يَنْقَضِيَ في غَيْرِ طاعةٍ تُقُرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى زُلْفى ، مُتَعَرِّضٌ في يوم التَّغابُن لغَبِينَةٍ وحَسْرَةٍ مَا لها مُنْتَهَى ، ولهذا الخطرِ العظيمِ والخَطْبِ الهائلِ ، شَمَّر المُوفَّقُونَ عن ساقِ الجِدِّ ، وَوَدَّعُوا بالكليةِ ملاذَّ النَّفْسِ ، واغْتَنَمُوا بَقايَا العُمْرِ ، فَعَمَّرُوها بالطاعاتِ ، بِحَسَبِ تَكَرُّرِ الأوقَاتِ " ، انتهى . قال الشيخُ أبو مدين رحمه اللَّه : " عُمْرُكَ نَفَسٌ وَاحِدٌ ، فَاحْرِصْ أنْ يَكُونَ لَكَ لاَ عليك " ، انتهى . واللَّه الموفِّقُ بفضلِه ، و{ النشور } : الحياةُ بعدَ الموتِ .