اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ} (15)

قوله : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } لما بين الدليل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ، ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد ، كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً : يا فلانُ أنا أعلم سرك وعلانيتك ، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك ، وكل هذا الخير الذي هيأته لك ، ولا تأمن تأديبي ، فكأنه تعالى يقول : يا أيها الكُفَّار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم ، فخافوني ؛ فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ، ولو شئت خسفت بكم .

والذَّلُولُ : المنقاد الذي يذلّ لك ، والمصدر الذل وهو اللين والانقياد ، أي : لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة .

وقيل : يثبتها بالجبالِ لئلا تزول بأهلها ، ولو كانت تتكفأ متمايلة لما كانت منقادة لنا .

وقيل : إشارة إلى التمكن من الزرعِ ، والغرس ، وشق العيون ، والأنهار ، وحفر الآبار ، وبناء الأبنية ، ولو كانت صلبة لتعذر ذلك .

وقيل : لو كانت مثل الذَّهب والحديد ، لكانت تسخن جداً في الصيف ، وكانت تبرد جداً في الشتاء{[57415]} .

قوله : { فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا } . هذه استعارة حسنة جداً .

وقال الزمخشري{[57416]} : مثل لفرط التذليل ، ومجاوزته الغاية ؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب ، أرق شيء من البعير ، وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ، ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشى في مناكبها لم يترك .

فصل في هذا الأمر

هذا أمر إباحة ، وفيه إظهار الامتنان .

وقيل : هو خبر بلفظ الأمر ، أي : لكي تمشوا في أطرافها ، ونواحيها ، وآكامها وجبالها .

وقال ابنُ عبَّاسٍ وقتادة وبشير بن كعب : «فِي منَاكبِهَا » في جبالها{[57417]} .

وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها : إن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة . فقالت : مناكبها : جبالها ، فصارت حُرَّة ، فأراد أن يتزوجها ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : «دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ » .

وقال مجاهد : في أطرافها{[57418]} ، وعنه أيضاً : في طرفها وفجاجها{[57419]} ، وهو قول السديِّ والحسن .

وقال الكلبيُّ : في جوانبها{[57420]} . ومنكبا الرجل : جانباه ، وأصل الكلمة : الجانب ، ومنه منكب الرجل والريح النكباء ، وتنكب فلان عن فلان .

يقول : امشُوا حيث أردتم ، فقد جعلتها لكم ذلولاً لا تمتنع .

وحكى قتادةُ عن أبي الجلد : أن الأرض من أربعة وعشرين ألف فرسخ ، فللسودان اثنا عشر ألفاً ، وللروم ثمانية آلافٍ ، وللفرس ثلاثة آلافٍ ، وللعرب ألفٌ .

قوله : { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } .

قال الحسن : ما أحله لكم .

وقيل : مما أنبته لكم .

وقيل : مما خلقه اللَّه لكم رزقاً من الأرض «وإليْهِ النُّشورُ » المرجع .

وقيل : معناه أن الذي خلق السماوات ولا تفاوت فيها ، والأرض ذلولاً ، قادر على أن ينشركم ، وإليه تبعثون من قبوركم .


[57415]:ينظر: القرطبي 18/140.
[57416]:ينظر: الكشاف 4/580.
[57417]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/168-169) عن ابن عباس وبشير بن كعب وقتادة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/384) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر. وذكره أيضا عن بشير بن كعب وعزاه إلى ابن المنذر.
[57418]:أخرجه الطبري (12/169) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/384) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
[57419]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/169).
[57420]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/140).