السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ} (15)

ولما كان هذا أمراً غامضاً دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه ، وأتقنه بخبره ، فقال مستأنفاً : { هو } أي : وحده { الذي جعل لكم الأرض } على سعتها وعظمتها وحزونة كثير منها { ذلولاً } أي : مسخرة لا تمتنع لتتوصلوا إلى منافعكم فيها ، قابلة للانقياد لما تريدون منها ، من مشي وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك ، وقيل : ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها ، ولو كانت متمايلة لما كانت منقادة لنا ، وقيل : لو كانت مثل الذهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف ، وتبرد جداً في الشتاء .

تنبيه : في ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدمة تهديد للكفرة ، كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً : يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك ، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها لك ، وكل هذا الخبز الذي هيأته لك ، ولا تأمن مكري وتأديبي ، فكأنه تعالى يقول : يا أيها الكفار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم ، فخافوني ، فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ، ولو شئت خسفت بكم .

وقوله تعالى : { فامشوا } ، أي : الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم ، من غير صعوبة توجب لكم وثوباً أو حبواً . { في مناكبها } مثل لفرط التذلل ومجاوزته الغاية ، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير ، وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك شيئاً ، وهذا أمر إباحة ، وفيه إظهار الامتنان . وقيل : خبر بلفظ الأمر ، أي : لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها ، وآكامها وجبالها ، وقال ابن عباس وبشير بن كعب وقتادة : في مناكبها في جبالها ، وتذليلها أدل على تذليل غيرها ، وليكن مشيكم فيها وتصرفاتكم بذل وإخبات وسكون ، استصغاراً لأنفسكم ، وشكراً لمن سخر لكم ذلك ، وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها : إن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة ، فقالت : مناكبها جبالها ، فقال لها : صرت حرة ، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » وقال مجاهد : في أطرافها ، وعنه أيضاً في طرقها وفجاجها ، وهو قول السدي والحسن ، وقال الكلبي : في جوانبها ، ومنكبا الرجل جانباه .

فائدة : حكى قتادة عن أبي الخلدان : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ ، للسودان اثنا عشر ألف ، وللروم ثمانية آلاف ، وللفرس ثلاثة آلاف ، وللعرب ألف .

ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى : { وكلوا } ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى : { من رزقه } الذي أودعه لكم فيها ، قال الحسن : مما أحل لكم ، وقيل : مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض { وإليه } أي : وحده { النشور } وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها ، يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده ، على ما كان كل منها عليه عند الموت ، كما أخرج تلك الأرزاق ، لا فرق بين هذا وذاك ، غير أنكم لا تتأملون ، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر ، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل :

هي النفس ما عودتها تتعود ***