المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ۩} (15)

وقول تعالى : { ولله يسجد } الآية ، يحتمل ظاهر هذه الألفاظ : أنه جرى في طريق التنبيه على قدرة الله ، وتسخر الأشياء له فقط ، ويحتمل أن يكون في ذلك طعن على كفار قريش وحاضري محمد عليه السلام ، أي إن كنتم لا توقنون ولا تسجدون ، فإن جميع { من في السماوات والأرض } لهم سجود لله تعالى : وإلى هذا الاحتمال نحا الطبري .

قال القاضي أبو محمد : و { من } تقع على الملائكة عموماً ، وسجودهم طوع بلا خلاف ، وأما أهل الأرض فالمؤمنون منهم داخلون في { من } وسجودهم طوع ، وأما سجود الكفرة فهو الكره ، وذلك على نحوين من هذا المعنى :

فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة فالمراد من الكفرة من يضمه السيف إلى الإسلام -كما قال قتادة - فيسجد كرهاً ، إما نفاقاً ، وإما أن يكون الكره أول حاله فتستمر عليه الصفة ، وإن صح إيمانه بعد .

وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل - على حسب ما هو في اللغة كقول الشاعر :

***ترى الأكم فيه سجداً للحوافر{[6946]} . . .

فيدخل الكفار أجمعون في { من } لأنه ليس من كافر إلا وتلحقه من التذلل والاستكانة بقدرة الله أنواع اكثر من أن تحصى بحسب رزاياه واعتباراته .

وقال النحاس والزجاج : إن الكره يكون في سجود عصاة المؤمنين وأهل الكسل منهم .

قال القاضي أبو محمد : وإن كان اللفظ يقتضي هذا فهو قلق من جهة المعنى المقصود بالآية .

وقوله : { وظلالهم بالغدو والآصال } ، إخبار عن أن الظلال لها سجود لله تعالى بالبكر والعشيات . قال الطبري : وهذا كقوله تعالى : { أولم يروا إلى ما خلق من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله }{[6947]} [ النحل : 48 ] قال : وذلك هو فيئه بالعشي وقال مجاهد : ظل الكافر يسجد طوعاً وهو كاره . وقال ابن عباس : يسجد ظل الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله ، وحكى الزجاج أن بعض الناس قال : «الظلال » هنا يراد به الأشخاص - وضعفه أبو إسحاق .

و { الآصال } جمع أصيل{[6948]} . وقرأ أبو مجلز : «والإيصال » قال أبو الفتح : هو مصدر أصلنا أي دخلنا في الأصيل ، كأصبحنا وأمسينا .

وروي أن الكافر إذا سجد لصنمه فإن ظله يسجد لله تعالى حينئذ .


[6946]:هذا عجز بيت قاله زيد الخيل، والبيت بتمامه: بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر والبلق: سواد وبياض، يقال فرس أبلق، وهي بلقاء، والعرب تقول: دابة أبلق وجبل أبرق، والحجرات: الجوانب، والأكمة: التل المرتفع، و الجمع: أكمات وأكم، وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال، وجمع الإكام أكم مثل كتاب وكتب، وجمع الأكم آكام مثل عنق وأعناق.
[6947]:من الآية (48) من سورة (النحل).
[6948]:قال ابن جرير في تفسيره: والآصال جمع أصل، والأصل جمع أصيل، والأصيل هو العشي، وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس، قال أبو ذؤيب الهذلي: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل واستشهد أيضا بهذا البيت أبو عبيدة في (مجاز القرآن) على أن آصال جمع أصل، وأصل جمع أصيل، فآصال جمع الجمع، وبهذا أيضا قال الزجاج.