إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ۩} (15)

{ وَللَّهِ } وحده { يَسْجُدُ } يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالاً ولا اشتراكاً فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد { مَن في السموات والأرض } من الملائكة والثقلين { طَوْعًا وَكَرْهًا } أي طائعين وكارهين وانقيادَ طوعٍ وكُرهٍ ، أو حالَ طوعٍ وكره ، فإن خضوعَ الكلّ لعظمة الله عز وجل وانقيادَهم لإحداث ما أراده فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاءوا أو أبَوا ، وعدمُ مداخلةِ حكمِ غيره بل غيرِ حكمِه تعالى في تلك الشؤون مما لا يخفى على أحد { وظلالهم } أي وتنقاد له تعالى ظلالُ مَنْ له ظلٌ منهم أعني الإنسَ حيث تتصرف على مشيئته وتتأتّى لإرادته في الامتداد والتقلّص والفيء والزوال { بالغدو والآصال } ظرفٌ للسجود المقدّر أو حالٌ من الظلال ، وتخصيصُ الوقتين بالذكر مع أن انقيادها متحققٌ في جميع أوقات وجودِها لظهور ذلك فيهما ، والغدو جمع غَداة كفتيّ في جمع فتاة والآصالُ جمع أصيل ، وقيل : جمع أُصُل وهو جمعُ أصيل ، وهو ما بين العصر والمغربِ ، وقيل : الغدوّ مصدرٌ ويؤيده أنه قرئ والإيصالِ أي الدخول في الأصيل . هذا وقد قيل إن المرادَ حقيقةُ السجود فإن الكفرة حال الاضطرارِ وهو المعنيُّ بقوله تعالى : { وَكَرْهًا } يخُصّون السجودَ به سبحانه ، قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُواْ في الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ العنكبوت ، الآية 65 ] ولا يبعُد أن يخلُق الله تعالى في الظلال أفهاماً وعقولاً بها تسجُد لله سبحانه كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثارُ التجلّي كما قاله ابن الأنباري ، ويجوز أن يراد بسجودها ما يشاهَد فيها من هيئة السجود تبعاً لأصحابها ، وأنت خبير بأن اختصاصَ سجودِ الكافر حالة الضرورةِ والشدة بالله سبحانه لا يُجدي فإن سجودَهم لأصنامهم حالةَ الرخاء مُخِلُّ بالقصر المستفادِ من تقديم الجار والمجرور فالوجهُ حملُ السجودِ على الانقياد ، ولأن تحقيقَ انقيادِ الكل في الإبداع والإعدامِ له تعالى أدخلُ في التوبيخ على اتخاذ أولياءَ من دونه من تحقيق سجودِهم له تعالى ، وتخصيصُ انقيادِ العقلاءِ بالذكر مع كون غيرِهم أيضاً كذلك لأنهم العُمدة وانقيادهم دليل انقيادُ غيرهم على أنه بين ذلك بقوله عز وجل : { قُلْ مَن ربُّ السموات والأرض } .