فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ۩} (15)

{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض * طَوْعًا وَكَرْهًا } إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي ، وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل ، فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن ، وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في حقهم ، فلا بدّ أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى : حق لله السجود ووجب ، حتى يُناول السجود بالفعل وغيره ، أو يفسر للسجود بالانقياد . لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره ، وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت والفقر والغنى . ويدل على إرادة هذا المعنى قوله : { طَوْعًا وَكَرْهًا } فإن الكفار ينقادون كرهاً كما ينقاد المؤمنون طوعاً ، وهما منتصبان على المصدرية ، أي : انقياد طوع وانقياد كره ، أو على الحال ، أي : طائعين وكارهين ، وقال الفراء : الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعاً ، وبعض الكفار يسجدون إكراهاً وخوفاً كالمنافقين ، فالآية محمولة على هؤلاء . وقيل : الآية في المؤمنين ، فمنهم من سجد طوعاً لا يثقل عليه السجود ، ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحملون المشقة إيماناً بالله وإخلاصاً له . { وظلالهم بالغدو والآصال } وظلالهم : جمع ظل ، والمراد به : ظل الإنسان الذي يتبعه ، جعل ساجداً بسجوده حيث صار لازماً له لا ينفك عنه . قال الزجاج ، وابن الأنباري : ولا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاماً تسجد بها لله سبحانه ، كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه ، فظل المؤمن يسجد لله طوعاً . وظل الكافر يسجد لله كرهاً . وخص الغدو والآصال بالذاكر ، [ لأنه ] يزداد ظهور الظلال فيهما ، وهما ظرف للسجود المقدر ، أي : ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين ، وقد تقدّم تفسير الغدوّ والآصال في الأعراف ، وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْا إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيء يَتَفَيَّأُ ظلاله عَنِ اليمين والشمائل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون } [ النحل : 48 ] وجاء بمن في { من في السماوات والأرض } تغليباً للعقلاء على غيرهم ، ولكون سجود غيرهم تبعاً لسجودهم ، ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم { لله } على الفعل من الاختصاص ، فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم ، ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرّون على أنفسهم بأنها من الله ، كالخلق والحياة والموت ، ونحو ذلك .

/خ18