المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } ( 198 )

وقوله تعالى : { ليس عليكم جناح } الآية ، الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العتاب والزجر ، و { تبتغوا } معناه تطلبون بمحاولتكم .

وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء : إن الآية نزلت لأن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة ، فأباح الله تعالى ذلك ، أي لا درك في أن تتجروا وتطلبوا الربح( {[1881]} ) .

وقال مجاهد : «كان بعض العرب لا يتجرون مذ يحرمون ، فنزلت الآية في إباحة ذلك » .

وقال ابن عمر فيمن أكرى ليحج : «حجه تام ولا حرج عليه في ابتغاء الكراء » ، وقرأ ابن ( {[1882]} )عباس وابن مسعود وابن الزبير : «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج » .

وقوله تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات } أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل إلا مالك بن أنس ، فإنه قال : «لا بد أن يأخذ من الليل شيئاً ، وأما من وقف بعرفة بالليل فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه » وأفاض القوم أو الجيش إذا اندفعوا جملة ، ومنه أفاض الرجل في الكلام ، ومنه فاض الإناء ، وأفضته ، ومنه المفيض في القداح ، والتنوين في عرفات على حده في مسلمات ، الكسرة مقابلة للياء في مسلمين والتنوين مقابل النون ، فإذا سميت به شخصاً ترك ، وهو معرف على حده قبل أن تسمي به ، فإن كان { عرفات } اسماً تلك البقعة كلها فهو كما ذكرناه ، وإن كان جمع عرفة فهو كمسلمات دون أن يسمى به( {[1883]} ) ، وحكى سيبويه كسر التاء من «عرفاتِ » دون تنوين في حال النصب والخفض مع التعريف ، وحكى الكوفيون فتحها في حال النصب والخفض تشبيهاً بتاء فاطمة وطلحة ، وسميت تلك البقعة { عرفاتَ } لأن إبراهيم عرفها حين رآها على ما وصفت له ، قال السدي .

وقال ابن عباس : «سميت بذلك لأن جبريل عليه السلام كان يقول لإبراهيم عليه السلام : هذا موضع كذا ، فيقول قد عرفت » ، وقيل : سميت بذلك لأن آدم عرف بها حواء حين لقيها هناك .

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع ، وعرفة هي نعمان الأراك( {[1884]} ) ، وفيها يقول الشاعر :

تزودت من نعمان عود أراكة . . . لهند ولكن من يبلغه هندا ؟( {[1885]} )

و { المشعر الحرام } جمع كله ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى مأزمي عرفة( {[1886]} ) ، قال ذلك ابن عباس وابن جبير والربيع وابن عمر ومجاهد ، فهي كلها مشعر إلى بطن محسر ، كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عُرَنة ، بفتح الراء وضمها ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، والمزدلفة كلها مشعر ، وارتفعوا عن بطن محسر »( {[1887]} ) وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته ، وفي المزدلفة قرن قزح الذي كانت قريش تقف عليه ، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام ندب عند أهل العلم .

وقال مالك : «من مر به ولم ينزل فعليه دم » ،

وقال الشافعي : «من خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم ، وإن كان بعد نصف الليل فلا شيء عليه » ؟ .

وقال الشعبي والنخعي : من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج .

وقوله : { واذكروه كما هداكم } تعديد للنعمة وأمر بشكرها ، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام ، والكاف في { كما } نعت لمصدر محذوف و[ ما ] مصدرية أو كافة( {[1888]} ) ، و { إن } مخففة من الثقيلة ، ويدل على ذلك دخول اللام في الخبر ، هذا قول سيبويه .

وقال الفراء : «هي النافية( {[1889]} ) بمعنى ما ، واللام بمعنى إلاّ » والضمير في { قبله } عائد على الهدي .


[1881]:- أي في أيام الحج، اللهم إلا إذا كانت التجارة هي القصد فإن الفرض يسقط والثواب ينقص، انظر البخاري في باب التجارة في المواسم والبيع في أسواق الجاهلية. وقد كانت هذه الأسواق تقام في أشهر الحج. ومعنى قوله: لا درك: لا تبعَةَ. يقال: مالحقك من درك (بفتح الراء وسكونها) فعليّ خلاصه.
[1882]:- الأحسن أن تكون هذه القراءة تفسيرا لأنها تخالف سواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة.
[1883]:- فعرفات اسم في لفظ الجمع فلا يجمع، وقول الناس: نزلنا بعرفة شبيهق بمولد، وليس بعربي محض، وهي معرفة إن كانت جمعا، لأن الأماكن لا تزول فصار كالشيء الواحد، وفي المصباح: ويعرب (عرفات) إعراب (مسلمات ومؤمنات)، والتنوين يشبه تنوين المقابلة كما في باب (مسلمات)، وليس بتنوين صرف لوجود مقتضى المنع من الصرف وهو العملية والتأنيث، ولهذا لا يدخلها الألف واللام، وبعضهم يقول: عرفة هي الجبل، وعرفات جمع عرفة تقديرا لأنه يقال: وقفت بعرفة كما يقال: بعرفات ا هـ.
[1884]:- قال في المصباح: الأراك: موضع بعرفة من جهة الشام، وقال أيضا: ونعمان الأراك بفتح النون واد بين مكة والطائف ويخرج إلى عرفات، وقال الأزهري، نعمان اسم جبل بين مكة والطائف، وهو وَجّ الطائف، ووجّ الطائف: بلد الطائف. والوَجّ في الأصل: ضرب من الأودية – ذكره في الصحاح.
[1885]:- هو لابن أبي ربيعة كما في ديوانه. وفي رواية (تخيرت) (بدل تزودت).
[1886]:- المَأزم بوزن مسجد: الطريق الضيق بين الجبلين، ويقال للموضع الذي بين عرفة والمشعر مأزما وثُنِّي المأزم لمكان الجبلين وإلا فهو واحد.
[1887]:- رواه الإمام مالك في الموطأ، قال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله، ومن حديث علي بن أبي طالب. وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرفة من عرفة، وبطن محسر من المزدلفة.
[1888]:- أي كفّت الكاف عن العمل، وكونها مصدرية أولى، أي كهدايته، والفرق بين المصدرية والكافة أن (ما) المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر، والكافة لا يكون فيها ذلك إذ لا عمل لها البثّةَ.
[1889]:- ومعناها: ما كنتم من قبل الهدى إلا ضالين، والهداية هداية الإيمان، والضلال ضلال الكفر.