الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } الآية قال المفسرون : كان ناس من العرب لا يتّجرون في أيام الحج ، فإذا دخل العشر كفّوا عن الشراء والبيع فلم يقم لهم سوق ، وكانوا يسمون من يخرج إلى الحجّ ومعه تجارة : الداج ، فأنزل الله تعالى هذه الآية واباح التجارة في الحج .

فقال ابن عبّاس : كانت عكاظ ومجنة وذو الحجاز أسواقاً في الجاهلية كانوا يتجرون فيها في الموسم وكان أكثر معايشهم منها فلما جاء الإسلام كأنهم تأثموا منها فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية .

وقال أبو أُمامة التيمي : قلت لابن عمر : إنّا قوم نكري فيدعمون المؤمنين في الحج .

فقال : ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون الحجارة كما يرومون ؟

قلت : بلى . قال : انتم حاج ، جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتّى نزل جبرئيل بهذه الآية { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } يعني التجارة وكان ابن عبّاس يقرأها { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } في مواسم الحج .

الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج به الخاص فإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للجار ، وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين ، وإذا كان عند جمرة العقبة ( غفر اللَّه للسؤال ) ولا شهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلاّ الله إلاّ غفر له " . { فَإِذَآ أَفَضْتُم } رجعتم ودعيتم بكرة .

يقال : أفاض القوم في الحديث إذاً اندفعوا فيه وأكثروا التصرف .

قال الشاعر :

فلما أفضنا في الحديث وأسمحت *** أتتنا عيون بالنميمة تضرب

وأصلها من قول العرب أفاض الرجل ماءه إذا صبّه ، وأفاض البعير ( تجرعه ) إذا رمى ودفع بها من كرشه .

قال الراعي :

فأفضن بعد كظومهن بجرة *** من ذي الابارق إذا رعين حقيلاً

ويقال : أفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها لأنها موضع بقع متفرقة .

قال أبو ذهيب :

يصف الحمار والأنف وأتته ربابة وكأنه *** يسر يفيض على القداح ويصدع

ولا تكون الافاضة في اللغة إلاّ عن تفرق وكثرة قال عمر بن الخطاب : الافاضة الانصداع . { مِّنْ عَرَفَاتٍ } القراءة بالكسر والتنوين لانه جمع عرفة مثل مسلمات ومؤمنات ، فسميت بها بقعة واحدة مثل قولهم : أرض سباسب وثوب اخلاق يجمع بها حولها ، فلما سميت بها البقعة الواحدة صرفت إذا كانت مصروفة قبل ان يسمى بها البقعة تركاً منهم لها على أصلها فإذا كانت في الأصل بقعة واحدة ولم يكن جمعاً تركوا إجزاءها ونصبوا تاءها في حال الخفض مثل عانات وأذرعات فرقا بين الاسم وبين الجمع ، واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله قيل للموقف عرفات وليوم الوقوف بها عرفة .

فقال الضحاك : إن آدم لما أُهبط وقع في الهند وحواء بجدة فجعل آدم يطلب حواء وهي تطلبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم عرفة والموضع عرفات .

أبو حمزة الثمالي عن السّدي قال : إنّها سميت عرفات لأن هاجر حملت إسماعيل عليه السلام فأخرجته من عند سارة وكان إبراهيم غائباً فلما قدم لم ير إسماعيل فحدثته سارة بالذي صنعت هاجر فانطلق في طلب إسماعيل فوجده مع هاجر بعرفات فعرفه فسميت عرفات .

وعن علي بن الأشدق عن عبدالله بن ( حراد ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان إبراهيم غدا من فلسطين فحلفت سارة إن لا ينزل عن ظهر دابته حتّى يرجع إليها من الغيرة فأتى إسماعيل ثمّ رجع فحبسته سارة سنة ثمّ استأذنها فأذنت له فخرج حتّى بلغ مكّة وجبالها فبات ليلة يسير ويسعى حتّى أذن الله عزّ وجلّ له في ثلث الليل الأخير عند سند جبل عرفة ، فلما أصبح عرف البلاد والطريق فجعل الله عزّ وجلّ عرفة حيث عرف فقال : اجعل بيتك أحبَّ بلادك إليك حتّى يهوي الله قلوب المسلمين من كلّ فج عميق " .

عبد الملك عن عطاء قال : إنّما سميت عرفات لأن جبرئيل عليه السلام كان يُري إبراهيم المناسك ويقول : عرفت ثمّ يُريه فيقول : عرفت فسميت عرفات .

وروى سعيد بن المسيب عن علي رضي الله عنه قال : بعث الله عزّ وجلّ جبرئيل إلى إبراهيم فحج به حتّى إذا [ جاء ] عرفات قال : قد عرفت ، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك فسميت عرفات .

وروى أبو الطفيل عن ابن عبّاس قال : إنّما سمي عرفة لأن جبرئيل عليه السلام أرى إبراهيم فيه بقاع مكّة ومشاهدها وكان يقول يا إبراهيم هذا موضع كذا وهذا موضع كذا ويقول قد عرفت ، قد عرفت .

وروى اسباط عن السّدي قال : لما أذن إبراهيم بالناس فأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات فنعتها له فلمّا خرج وبلغ الشجرة المستقبلة للشيطان فرماه بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبّر فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر فلما رأى إنه لا يطيقه ذهب ، فانطلق إبراهيم حتّى أتى ذا المجاز فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فكذلك سُمّي ذو المجاز فانطلق حتّى وقف بعرفات ، فلما نظر إليها عرفها بالنعت فقال : عرفت ، فسمي عرفات بذلك وسمي ذلك اليوم عرفة لأن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه أن يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح يومه أجمع أيّ فكر أمن الله هذا الحكم أمن الشيطان وسمي اليوم من فكرته تروية ثمّ رأى ليلة عرفة ذلك ثانياً فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي اليوم يوم عرفة .

وقال بعضهم : سميت بذلك لأن الناس يعترفون في هذا اليوم على ذلك [ الموقف ] بالذنوب والأصل نسيان آدم عليه السلام لما أمر بالحجّ وقف بعرفات يوم عرفة قال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] .

وقيل : هي مأخوذة من العرف ، قال الله تعالى { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 6 ] أي طيّبها ، قالوا : فمنى موضع بمنى وفيه الدم أي يصب فلذلك سميَّ منى ففيه يكون الفروث والانذار والدماء وليست بطيبة ، وعرفات ليس فيها وهي طيبة فلذلك سميت عرفات ويوم الوقوف بها عرفة . وقيل : لأن الناس يتعارفون بها .

وقال بعضهم : أصل هذين الأسمين من الصبر ، يقال : رجل عارف إذا كان صابراً خاضعاً خاشعاً ويقال في المثل : النفس عروف وما حمّلتها تتحمل .

قال الشاعر :

فصبرت عارفة لذلك حرّة *** ترسوا إذا نفس الجنان تطلع

أي نفساً صابرة .

وقال ذو الرمّة :عروف لما خطت عليه المقادر

أي صبور على قضاء الله ، فسميا بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم وصرفهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمالهم الشدائد والميقات لإقامة هذه العبادة . { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ } بالتلبية والدعاء { عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسّر ، وليس مأزماً عرفة من المشعر ، وإنّما سمي مشعراً من الشعار وهو العلامة ، لأنه معلم للحج ، والصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده من [ معالم ] الحج ، والمبيت بالمشعر الحرام فرض واجب ومن تركه كان عليه شاة ، والدليل عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بات بها وقال [ انحروا ] عنى بمناسككم .

وقال المفضل : سمي مشعراً لأنها شعر المؤمنون أنه حرم كالبيت ومكّة ، أيّ اعلموا ذلك ، وأصل الحرام المنع ، قال الله تعالى [ . . . . . . . . . . ] أي الممنوع من المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من اتيانه .

وقال زهير :

وإن أتاه ( خليل ) يوم مسألة يقول *** لا غائب مالي ولا حرام

أي ولا ممنوع ، والمشعر الحرام من أن يفعل فيه ما حرم ولم يرض في اتيانه ، ويقال له المشعر الحرام والمزدلفة وقدم [ . . . . . . . . . . . . ] بغيرهما والجميع ، سمي بذلك لأنه يجمع فيها بين صلاتي العشاء ، والافاضة من عرفات بعد غروب الشمس وكان أهل الجاهليّة يفيضون منهما قبل غروب الشمس ومن جمع بعد طلوعها ، وكانوا يقولون : أشرق ثبير كيما نغير فأمر الله مخالفتهم في الدفعتين جميعاً .

وروى أبو صالح عن ابن عبّاس أنه نظر إلى الناس ليلاً جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة ما ينامون تأولون قول الله تعالى { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } . { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } لدينه ومناسك حجّه { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } يعني وما كنتم من قبله إلاّ من الضالين كقوله { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } [ الشعراء : 186 ] يعني وان نظنك إلاّ من الكاذبين .

قال الشاعر :

ثكلتك أُمّك إن قتلت لمسلماً *** حلت عليك عقوبة الرحمن

أي ما قتلت إلاّ مسلماً .

والهاء في قوله ( من قبله ) عائدة إلى الهدي ، وإن شئت على الرسول صلى الله عليه وسلم ، كناية عن غير مذكور .