الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

قوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ } : " أَنْ " في محلِّ نصبٍ عند سيبويه والفراء ، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأخفش ؛ لأنَّها على إضمار حرفِ الجَرِّ ، في أَنْ ، وهذا الجارُّ متعلَّقٌ : إمَّا بجُناحِ لما فيه من معنى الفعلِ وهو الميلُ والإِثمُ ، وما كانَ في معناهما ، وإمَّا بمحذوفٍ ، لأنه صفةٌ ل " جُناح " ، فيكونُ مرفوعَ المحلِّ أي : جناحٌ كائنٌ في كذا . ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه متعلقٌ ب " ليس " ، واستضعفه ، ولا ينبغي ذلك ، بل يُحْكَمُ بتخطئتِه البتة .

قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } يجوز أَنْ يتعلَّق بتبتغوا ، وأن يكونَ صفةً ل " فضلاً " ، فيكونُ منصوبَ المحل ، متعلقاً بمحذوفٍ . و " مِنْ " في الوجهين لابتداءِ الغاية ، لكنْ في الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أي : فضلاً كائناً مِنْ فُضولِ ربكم .

قوله : { فَإِذَآ أَفَضْتُم } العاملُ فيها جوابُها وهو " فاذكروا " قال أبو البقاء . " ولا تمنع الفاءُ من عملِ ما بعدَها فيما قبلها لأنه شرطٌ " . وقد منع الشيخ مِنْ ذلك بِما معناه أنَّ مكانَ إنشاء الإِفاضة غيرُ مكانِ الذكر ؛ لأنَّ ذلك عرفات وهذا المَشْعَرَ الحرام ، وإذا اختلف المكانُ لزم منه اختلافُ الزمانِ ضرورةً ، فلا يجوزُ أَنْ يكونَ الذكر عند المشعر الحرام واقعاً عند إنشاء الإِفاضة .

قوله : { مِّنْ عَرَفَاتٍ } متعلِّقٌ ب " أَفَضْتُم " والإِفاضةُ في الأصل : الصبُّ ، يقال : فاضَ الماء وأَفَضْتُه ، ثم يُستعمل في الإِحرام مجازاً . والهمزة في " أَفَضْتُم " فيها وجهان ، أحدهما : أنها للتعدية فيكون مفعولُه محذوفاً تقديره : أَفَضْتُم أنفسكم ، وهذا مذهبُ الزجاج وتبعه الزمخشري ، وقَدَّره الزجاج فقال : " معناه : دَفَع بعضُكم بعضاً " . والثاني : أن أَفْعَل هنا بمعنى فَعَل المجردِ فلا مفعولَ به . قال الشيخ : " لأنه لا يُحفظ : أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه ، وكان قد شرحه بالانخراط والاندفاعِ والخروج من المكانِ بكثرة .

وأصل أَفَضْتُم : أَفْيَضْتُم فَأُعِلَّ كنظائره ، بأَنْ نُقِلَتْ حركةُ حرفِ العلة على الساكنِ قبله فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصلِ وانفتح ما قبله فَقُلِب ألفاً وهو من ذواتِ الياء من الفَيْض كما ذَكَرْتُ لك ، ولا يكون من ذواتِ الواوِ من قولهم : فَوْضى الناسِ وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائسٍ .

وعَرَفات اسمُ مكانٍ مخصوصٍ ، وهل هو مشتقٌّ أو مرتجل ؟ قولان أحدهما : أنه مرتجلٌ وإليه ذهب الزمخشري قال : " لأنَّ العَرَفَة لا تُعْرَف في أسماء الأجناس إلا أَنْ تكونَ جمعَ عارف " . والثاني : أنه مشتقٌّ ، واختُلِفَ في اشتقاقه ، فقيل : من المعرفة لأن إبراهيم عليه السلام لَمَّا عَرَّفه جبريل هذه البقعة فقال : عَرَفْتُ عَرَفْتُ ، أو لأنه عَرَّفَه بها هاجَرَ واسماعيلَ لَمَّا اخَّرجَتْهما سارةُ في غَيْبته فوجَدهما بها ، أو لأنَّ آدم عَرَف بها حواء .

وقيل : مشتقةٌ من العَرْف وهو الرائحةُ الطيبة ، وقيل : من العُرْف وهو الارتفاعُ ومنه عُرْفُ الديك ، وعرفات جمع عَرَفة في الأصل ثم سُمِّي به هذا الموضعُ ، والمشهور أنَّ عرفات وعَرَفه واحد . وقيل : عَرَفةُ اسمُ اليومِ وعرفات اسمُ مكان ، والتنوين في عَرَفات وبابِهِ فيه ثلاثةُ أقوال ، أظهرُها : أنه تنوينُ مقابلةٍ ، يَعْنُون بذلك أنَّ تنوينَ هذا الجمع مقابلٌ لنونِ جمع/ الذكور ، فتنوينُ مسلمات مقابل لنون مسلمين ، ثم جُعِل كلُّ تنوينٍ في جمعِ الإِناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - كذلك طَرْداً للباب . والثاني أنه تنوينُ صرفٍ وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال : " فإن قلت : فهلاَّ مُنِعَت الصرفَ وفيها السببان : التعريفُ والتأنيثُ . قلت : لا يخلو التأنيثُ : إما أن يكونَ بالتاءِ التي في لفظِها وإما بتاء مقدرة كما في " سعاد " فالتي في لفظِها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ المؤنث ، ولا يَصِحُّ تقديرُ التاءِ فيها ، لأنَّ [ هذه ] التاء لاختصاصها بجمعِ المؤنثِ مانعةٌ من تقديرُها كما لا تُقَدَّر تاءُ التأنيث في بنت ؛ لأنَّ التاءَ التي هي بدلٌ من الواو لاختصاصِها بالمؤنث كتاءِ التأنيث فَأَبَتْ تقديرَها " فمنع الزمخشري أن يكون التأنيثُ سبباً فيها فصار التنوينُ عنده للصرفِ . والثالث : أنَّ جمعَ المؤنثِ إنْ كان له جمعٌ مذكرٌ كمسلمات ومسلمين فالتنوين للمقابلةِ وإلاَّ فللصرفِ كعرفات .

والمشهورُ - حالَ التسمية به - أن يُنَوَّن وتُعْرِبَه بالحركتين : الضمة والكسرة كما لو كان جَمْعاً ، وفيه لغة ثانية : وهو حَذْفُ التنوينِ تخفيفاً وإعرابُه بالكسرةِ نصباً . والثالثة : إعرابُه غيرَ منصرف بالفتحة جراَ ، وحكاها الكوفيون والأخفش ، وأنشدَ قول امرىء القيس :

تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعاتَ وأهلُها *** بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالي

بالفتح .

قوله : { عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ باذكروا . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ " اذكروا " أي : اذكروه كائنين عند المشعِر .

قوله : { كَمَا هَدَاكُمْ } فيه خمسةُ أقوالٍ ، أحدُها : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على أنَّها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي : ذكراً حسناً كما هداكم هدايةٌ حسنة ، وهذا تقدير الزمخشري . والثاني : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدرِ المقدرِ ، وهو مذهبُ سيبويه . والثالث : أن تكونَ للتعليل بمعنى اللام ، أي : اذكروه لأجلِ هدايته إياكم ، حكى سيبويه " كما أنه لا يَعْلَمُ فتجاوزَ الله عنه " . ومِمَّنْ قَالَ بكونِها للعِلِّيَّة الأخفشُ وجماعةٌ .

و " ما " في " كما " يجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ مصدريةً ، فتكونَ مع ما بعدها في محلِّ جر بالكافِ ، أي : كهدايته . والثاني : - وبه قال الزمخشري وابن عطية - أن تكونَ كافةً للكافِ عن العملِ ، فلا يكونُ للجملة التي بعدها محلُّ من الإِعرابِ ، بل إنْ وَقَع بعدَها اسمٌ رُفِعَ على الابتداء كقوله :

ونَنْصُرُ مولانا ونعلُم أنَّه *** كما الناسُ مجرومٌ عليه وجَارِمُ

وقال آخر :

لعمرك إنني وأبا حميدٍ *** كما النشوانُ والرجلُ الحليمُ

أريد هجاءَه وأخاف ربي *** وأعلم أنه عبدٌ لئيم

وقد منع صاحبُ " المستوفى " كونَ " ما " كافةً للكافِ ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم .

والرابع : أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال من فاعل " اذكروا " تقديرُه : مُشْبِهين لكم حين هداكم . قال أبو البقاء : " ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ؛ لأنَّ الجثة لا تشبه الحدثَ . والخامس : أن تَكونَ الكافُ بمعنى " على " كقوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] .

قوله : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } : " إنْ " هذه هي المخففةُ من الثقيلة ، واللامُ بعدها للفرق بينها وبين النافيةِ ، وجازَ دخولُ " إنْ " على الفعل لأنه ناسخٌ . وهل هذه اللامُ لام الابتداءُ التي كانت تصحبُ " إنَّ " أو لامٌ أخرى غيرُها ، اجتُلِبَتْ للفرق ؟ قولان هذا رأيُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف : فالفراءُ يزعم أنها بمعنى " إنْ " النافية واللامُ بمعنى إلاَّ أي : ما كنتم من قبلِه إلا من الضالين ، ومذهبُ الكسائي التفصيلُ : بين أنْ تدخُلَ على جملةٍ فعليةٍ فتكونَ " إنْ " بمعنى قد ، واللامُ زائدة للتوكيدِ وبين أن تدخلَ على جملةٍ اسمية فتكون كقولِ الفراء ، وقد تقدَّم طرفٌ من هذه الأقوال .

و " من قبله " متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه " لمن الضالين " ، تقديرُه : كنتم من قبله ضالِّين لمن الضالين . ولا يتعلَّق بالضالِّين بعده ، لأنَّ ما بعد أل الموصولة لا يعمل فيما قبلها ، إلا على رأي مَنْ يتوسَّع في الظرف ، وقد تقدم تحقيقه . والهاء في " قبله " عائدةٌ على " الهدى " المفهومِ من قوله " كما هداكم .