غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

197

{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا } أي في أن تطلبوا { فضلاً من ربكم } عطاء منه وتفضلاً أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والربح بها كقوله { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } [ المزمل : 20 ] عن أبي مسلم : أنه حمل الآية على ما بعد الحج . قال : والتقدير واتقون في كل أفعال الحج ، ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح أن تبتغوا كقوله { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] وزيف بأن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة ، ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج ، وأما بعد الفراغ فالحل معلوم ، وقياس الحج على الصلاة فاسد ، فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في خلالها . وأيضاً الفاء في قوله { فإذا أفضتم } ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك يدل على أن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ويؤيده قراءة ابن عباس { فضلاً من ربكم في مواسم الحج } وقال ابن عباس في سبب نزول الآية كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في الكف عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج للتجارة الداج ويقولون : هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج الأعوان والمكارون من الدجيج وهو الدبيب في السير . قال ابن السكيت : لا يطلق الدجيج إلا إذا كان جماعة ولا يقال ذلك للواحد . وقيل : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم ، وكانت معايشهم منها . فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الحرج . ومن المعلوم أنه إنما يباح ما لم يشغل عن العبادة . وعن ابن عمر أن رجلاً قال له : إنا قوم نكرى في هذا الوجه يعني في طريق الحج ، وإن قوماً يزعمون أن لا حج لنا . فقال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت عنه فلم يرد عليه حتى نزل { ليس عليكم جناح } فدعا به فقال : أنتم حجاج . وعن عمر أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج ؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج ؟ ! وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : أن ابتغاء الفضل ههنا طلب أعمال أخر زائدة على أعمال الحج موجبة لفضل الله تعالى ورحمته كإعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وإرواء العطشان . واعلم أن الفضل ورد في القرآن بمعان ، منها ما يتعلق بالمصالح الدنيوية من المال والجاه والغذاء واللباس وهو المسمى بالرزق { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] ومنها ما يتعلق بالمصالح الأخروية وهو الفضل والثواب والجنة والرحمة { تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله }

[ الفتح : 29 ] { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان } [ النساء : 83 ] ومنها ما يتعلق بمواهب القربة { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } [ الحديد : 21 ] { وكان فضل الله عليك عظيماً } [ النساء : 113 ] ورفع الجناح قد يستعمل في الواجب والمندوب مثل ما يستعمل في المباح كما مر في قوله { فلا جناح عليه أن يطوّف بهما } [ البقرة : 158 ] .

{ فإذا أفضتم } أي دفعتم بكثرة ومنه إفاضة الماء وهو صبه بكثرة . التقدير : أفضتم أنفسكم . فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا وصبوا . وعرفات جمع عرفة وكلاهما علم للموقف كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمي مجموع تلك القطعة بعرفات كما قيل في باب الصفة " ثوب أخلاق " و " برمة أعشار " ثم سئل : هلا منعت الصرف وفيها سببان التعريف والتأنيث ؟ فقيل : إنه لم يبق علماً بعدما جمع ثم جعل علماً لمجموع القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في الصرف . وقيل : إن هذا التنوين تنوين المقابلة في نحو " مسلمات " ومن ذهب إلى أن تنوين المقابلة لا وجود له كجار الله وكثير من المتأخرين . وأن هذا التنوين تنوين الصرف . قالوا : إنما لم يسقط لأن التأنيث في نحو " مسلمات وعرفات " ضعيف . فإن التاء التي هي لمحض التأنيث سقطت ، والباقية علامة لجمع المؤنث ، وزيف بأن عرفات مؤنث . وإن قلنا إنه لا علامة تأنيث فيها لا متمحضة للتأنيث ولا مشتركة لأنه لا يعود الضمير إليها إلا مؤنثاً تقول " هذه عرفات مباركاً فيها " ولا يجوز " مباركاً فيه " إلا بتأويل بعيد كما في قوله " ولا أرض أبقل إبقالها " فتأنيثها لا يقصر عن تأنيث مصر الذي هو بتأويل البقعة . وقال بعض المتأخرين : الأولى أن يقال : إن التنوين للصرف وإنما لم يسقط في نحو " عرفات " لأنه لو سقط لتبعه الكسر في السقوط وتبع النصب وهو خلاف ما عليه الجمع السالم ، إذ الكسر فيه متبوع لا تابع فهو فيه كالتنوين في غير المنصرف للضرورة لم يحذفا لمانع . هذا مع أنه جوز المبرد والزجاج ههنا مع العلمية حذف التنوين وإبقاء الكسر كبيت امرئ القيس في رواية .

تنورتها من أذرعات وأهلها *** بيثرب أدنى دارها نظر عالي

وبعضهم يفتح التاء في مثله مع حذف التنوين كسائر ما لا ينصرف . فعلى هذين الوجهين التنوين للظرف بلا خلاف ، والأشهر بقاء التنوين في مثله مع العلمية . وقيل : التنوين عوض من منع الفتحة . واعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية ، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة . وعرفة وعرفات هي الموضع المخصوص . فقيل : التروية التفكر . وسببه أن آدم عليه السلام لما أمر ببناء البيت فبناء تفكر فقال : يا رب إن لكل عامل أجراً فما أجري على هذا العمل ؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك . قال يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به . قال : زدني ، فقال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك . قال : حسبي يا رب حسبي . وقيل : إن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح متفكراً هل هذا من الله أو من الشيطان ، فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك . وقيل : إن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروّون في الأدعية التي يذكرونها في الغد بعرفات . وقيل : التروية الإرواء فإن أهل مكة كانوا يجمعون الماء للحجيج الذي يقصدونهم من الآفاق فيتسعون في الماء بعدما تعبوا في الطريق من قلة الماء ، أو لأنهم يتزوّدون الماء إلى عرفة ، أو لأن المذنبين كالعطاش وردوا بحار الرحمة فشربوا منها حتى رووا . أما يوم عرفة فقيل : إنه من المعرفة لأن آدم وحوّاء عليهما السلام التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه ، عن ابن عباس أو لأن جبريل عليه السلام علم آدم مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت ؟ قال : نعم . أو لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة . عن علي عليه السلام وابن عباس وعطاء والسدي . أو لأن جبريل عرف بها إبراهيم المناسك وقد مر في قوله

{ وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 128 ] أو لأن إبراهيم وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يتلاقيا سنين ثم التقيا يوماً بعرفات ، وقد سبقت القصة في بناء البيت في قوله { وإذ يرفع إبراهيم القواعد } [ البقرة : 127 ] ولما ذكرنا آنفاً من مقام إبراهيم أو لأن الحاج يتعارفون فيه إذا وقفوا ، أو لأنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة . وقيل : اشتقاقها من الاعتراف لأن الناس يعترفون هنالك للحق بالربوبية والجلال ، ولأنفسهم بالفقر واختلاف الحال . يقال : إن آدم عليه السلام وحوّاء لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ، فقال الله سبحانه : الآن عرفتما أنفسكما . وقيل : من العرف وهو الرائحة الطيبة لأن المذنبين يكتسبون بالمغفرة روائح طيبة عند الله مقام ضدها . قال صلى الله عليه وسلم " خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك " وقد يسمى يوم عرفة يوم إياس الكفار من الإسلام ويوم إكمال الدين ويوم إتمام النعمة ويوم الرضوان أخذاً من قوله تعالى في المائدة { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] عن عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية يوم عرفة وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام في حجة الوداع وقد اضمحل الكفر وهدم منار الجاهلية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو يعلم الناس مالهم في هذه الآية لقرت أعينهم " . قال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية أنزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين . وكان ذلك يوم عرفة ويوم جمعة يوم صلة الواصلين { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] يوم قطيعة القاطعين { إن الله بريء من المشركين ورسوله } [ التوبة : 3 ] يوم إقالة عثرة النادمين وقبول توبة التائبين { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] يوم وفد الوافدين في الخبر " الحاج وفد الله والحاج زوّار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره " يوم الحج الأكبر

{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ] يوم خص صومه بكثرة الثواب قال صلى الله عليه وسلم " صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين " وقال " من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله مثل ثواب عيسى بن مريم " أقسم الله تعالى به في قوله عز من قائل { والشفع والوتر } [ الفجر : 3 ] عن ابن عباس : الشفع يوم التروية وعرفة ، والوتر يوم النحر يوم خص بكثرة الرحمة وسعة المغفرة . وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم " ولا ضير أن نشير ههنا إلى أعمال الحج إشارة خفيفة . اعلم أنه من دخل مكة محرماً في ذي الحجة أو قبله فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات ، وإن كان متمتعاً طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات ، وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج ، وكذلك من أراد الحج من أهل مكة . والسنة للإمام أن يخطب بمكة اليوم السابع من ذي الحجة بعدما صلى الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فيها بالذهاب غداً بعد أن يصلوا الصبح إلى منى ، ويعلمهم تلك الأعمال . ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بمنى ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة ، ثم إذا طلعت الشمس على ثبير توجهوا إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها بل تضرب قبة الإمام بنمرة . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب وأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها . فإذا زالت الشمس خطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف ، وبعد الفراغ من الخطبة الأولى جلس ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه . ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر ، ثم يقيمون في الحال فيصلي . بهم العصر ، وهذا الجمع متفق عليه . ثم بعد الفراغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك ، وإذا وقفوا استقبلوا القبلة ويذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس . والوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به ، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج لقوله صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " فمن فاته عرفة فقد فاته الحج . وقد يستدل بالآية أيضاً على ذلك لأنها دلت على ذكر الله عند المشعر الحرام عقيب الإفاضة من عرفات . والإفاضة من عرفات لا تتصور إلا بعد الحصول بعرفات . وجمهور الفقهاء على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليس بركن لأنه تعالى أمر بالذكر عنده ، فالوقوف به تبع لا أصل بخلاف الوقوف بعرفة لأنه جعله أصلاً حيث لم يقل فإذا أفضتم عن الذكر بعرفات . ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار كفى . وقال أحمد : وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر . وإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة . قيل : سمي بها لأنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب . وقيل : لأن الناس يجتمعون بها ، والازدلاف الاجتماع . وقيل : لأنهم يزدلفون إلى الله أي يتقربون بالوقوف فيها . ويقال : للمزدلفة جمع لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء عن قتادة : وقيل : لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها . ثم إذا أتى الإمام المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين . ثم يبيتون بها فإن لم يبت بها فعليه دم شاة . فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس . والتغليس بالفجر ههنا أشد استحباباً منه في غيرها وهو متفق عليه . فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي ، يأخذ كل إنسان سبعين حصاة ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقول له قزح فيرقى فوقه إن أمكنه أو وقف بالقرب منه إن أمكنه ، ويحمد الله ويهلله ويكبره ، ولا يزال كذلك حتى يسفر جداً ، ثم يدفع قبل طلع الشمس . ويكفي المرور كما في عرفة ثم يذهبون منه إلى وادي محسر ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً يحرك دابته ، ومن كان ماشيا يسعى سعياً شديداً قدر رمية حجر . فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا رمى ، ثم بعدما رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه لأنه ربما لا يكون معه هدي . ثم بعدما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر ، ثم بعد الحلق أتى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة وهو الركن ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم بعد ذلك يعود إلى منى في بقية يوم النحر ، وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي . واعلم أن من مكة إلى منى فرسخين ، ومن منى إلى عرفات فرسخين ، ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات منها إلى كل واحد منهما فرسخ ، ولا يقفون بها في سيرهم من منى إلى عرفات . والحاصل أن أعمال الحج يوم النحر إلى أن يعود إلى منى أربعة : رمي جمرة العقبة والذبح والحلق والتقصير والطواف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة أيضاً لأنهم يأتون من منى زائرين للبيت ويعودون في الحال . والترتيب في الأعمال الأربعة على النسق المذكور مسنون وليس بواجب . أما أنه مسنون فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعلها ، وأما أنه ليس بواجب فلما " روي عن عبد الله بن عمرو قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال : يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي . قال : ارم ولا حرج . وأتاه آخر فقال : إني ذبحت قبل أن أرمي قال : ارم ولا حرج . وأتاه آخر فقال : إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال : ارم ولا حرج ، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج " . وعن مالك وأحمد وأبي حنيفة أن الترتيب بينها واجب ولو تركه فعليه دم على تفصيل ليس ههنا موضع بيانه . ثم إن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج من سنة إبراهيم صلى الله عليه وسلم . وذلك أن الحمس كانوا لا يقفون بعرفات ويقولون : لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس ، والذين يقفون بمزدلفة إذا طلعت الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع للنحر . وقيل : أي ندفع من مزدلفة فندخل في غور الأرض . وثبير جبل هناك فأمر الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بمخالفة القوم في الدفعتين فأمره بأن يفيض من عرفات بعد غروب الشمس . وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، فإن السنة أيضاً من قبيل الوحي . قال الواحدي : المشعر الحرام هو المزدلفة سماه الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده . وقال في الكشاف : المشعر الحرام قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة ، أي : يوقد هناك النار في الجاهلية ، قال : وقيل المشعر الحرام ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام . قال : والصحيح أنه الجبل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة - بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفاً حتى أسفر . وقال : عند المشعر الحرام معناه مما يلي المشعر الحرام قريباً منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ، أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر . والمشعر المعلم لأنه معلم لعبادته ووصف بالحرام لحرمته . وأما الذكر المأمور به هناك فقيل : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء . والصلاة تسمى ذكراً قال تعالى { وأقم الصلاة لذكري } [ طه : 14 ] والدليل عليه أن { فاذكروا } أمر فهو للوجوب ولا ذكر يجب هناك إلا هذا ، والجمهور على أن المراد ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل . عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون { كما هداكم } " ما " مصدرية أو كافة . أطلق الأمر بالذكر أوّلاً ثم قيده ثانياً . والمعنى : اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة كي تكونوا شاكرين والهداية إما كل أنواع الهدايات أو الهداية إلى سنة إبراهيم في مناسك الحج ، أو اذكروا كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه بحسب الرأي والقياس ، فإن أسماء الله تعالى توقيفية أو الذكر الأول محمول على الذكر باللسان ، والثاني على الذكر بالقلب . أو المعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته ، أو المراد بتثنية الأمر تكريره وتكثيره كقوله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } [ الأحزاب : 41 ] وعلى هذا فيكون قوله { كما هداكم } متعلقاً بالأمرين جميعاً ، أو الذكر الأول مقيد بأنه عند المشعر الحرام والثاني مطلق يدل على وجوب ذكره في كل مكان وعلى كل حال . فالأول إقامة للوظيفة الشرعية والثاني ارتقاء إلى معارج الحقيقة وهو أن ينقطع القلب عن المشعر الحرام بل عن كل ما سواه من حلال وحرام . أو المراد بالأول الجمع بين الصلاتين هناك وبالثاني التسبيح والتحميد { وإن كنتم من قبله } من قبل الهدى ، أو من قبل الرسول ، أو من قبل إنزال الكتاب الذي بين فيه معالم دينكم { لمن الضالين } الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه . { وإن } هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية .

/خ203